الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
انفصلت عن الدولة العباسية بعض الأقاليم، ولا سيما البعيدة منها، وكان المغرب العربي وإفريقية الإسلامية والأندلس أبرز المناطق التي انفصلت، فكيف كانت
مع قيام الدولة العباسية سنة (132هـ)؛ انفصلت عن دولة الخلافة الكبرى -من الناحية السياسية- بعض الأقاليم، ولا سيما البعيدة منها، وكان المغرب العربي وإفريقية الإسلامية والأندلس أبرز المناطق التي انفصلت، ولم ينظر قط إلى هذه الدول إلا على أنها دول مستقلة عسكريًا وسياسيًا، أما العقيدة والشريعة والقيم فواحدة، وكانت كلها تنتسب إلى الإسلام وتحمل رايته، وقد كان الأغالبة (184 – 296هـ) يرتبطون بالخلافة العباسية، ويحكمون باسمها، وعاصمتهم القيروان أصبحت من أشهر العواصم الإسلامية نشرا للثقافة الإسلامية، وعن طريق قوتهم البحرية الهائلة قاموا بغزو مالطة والسواحل الايطالية الجنوبية، وقد نجحوا في عهد زيادة الله الأغلبي في الاستيلاء على صقلية، بقيادة القائد الفقيه القاضي أسد بن الفرات (212هـ)[1].
أما الأدارسة فقد استقلوا في المغرب الأقصى، وكانت عاصمتهم (فاس)، وقد حكموا نحو قرنين من الزمان (172 - 363هـ).
وفي المغرب الأوسط (الجزائر) قامت دولة بني رستم على يد مؤسسها عبد الرحمن بن رستم؛ الذي كان مولى لعثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وهو منشئ مدينة تاهرت (العاصمة)، وكان يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويشارك الناس في أعمال البناء للمساجد ولبيوتهم بيده، ومع أنه كان خارجي المذهب إلا إنه كان - ودولته - ملتزما بالشريعة في إطار المذهب الإباضي، وقد عاشت الدولة أكثر من قرن ونصف (144 - 296 هـ)[2]، حتى قضى عليها الشيعة الفاطميون، وقد ازدهر المغرب الأوسط على عهد الرستميين، وأصبحت تاهرت مدينة علمية وثقافية حافلة بالأجناس من شتى أنحاء العالم الإسلامي[3]، وكانت الدولة على علاقة طيبة بالأمويين في الأندلس، وقد عملوا على نشر الإسلام في داخل إفريقية[4].
وكانت دولة بني مدرار (واسول) في سلجماسة؛ تشبه أن تكون جناحا خارجيا لبني رستم، وكانت مثلها في الاعتدال والالتزام بالإسلام، وكانت عاصمتها سجلماسة[5]، وعاشت أكثر من قرنين (140 - 349هـ)، وكانوا لا يبيحون دم مسلم إلا بحقه، ولا يميلون إلى تكفير أحد من المسلمين[6]، وقد تعاونوا مع بني رستم في أمور كثيرة نافعة؛ حتى قضى عليهم الشيعة!!
فهكذا ارتبطت هذه الدولة بالإسلام وشريعته وحضارته وجاهدت في سبيله على الرغم من استقلالها السياسي.
المرابطون في المغرب، نموذج رائع للإخلاص للإسلام
أما المرابطون الصنهاجيون (430 - 540هـ) فدولتهم - بحق - إحدى أعظم الدول الإسلامية في إفريقية والمغرب العربي، وقد قامت هذه الدولة على أساس العناق التام بين الدولة والأمة، على كتاب الله وسنة رسوله، والجهاد في سبيل إقامة مجتمع إسلامي، ونشر الإسلام في إفريقية، وقد وضعوا نصب أعينهم تربية الشعب على أسس إسلامية جادة، والتقدم به للقضاء على الوثنيات في إفريقية، وحركات المرتدين، وأدعياء النبوة في قبائل غمارة وبرغواطة، وكان ابن ياسين يلقب بمحيي السنة، وقامع البدع والأضاليل.
وقد أحدث عبد الله بن ياسين هزة في حياة العامة في هذه المنطقة، فغير بعض العادات، وأحيا الروح الدينية، وأقام حدود الإسلام، وعمل على نشر لواء المساواة بين الناس[7].
وكان رجال الدول المرابطية على هذا المنهج، ومنهم يحيى بن إبراهيم ويحيى بن عمر، وأبو بكر بن عمر اللمتوني، ويوسف بن تاشفين، وغيرهم، وقد علموا الناس في الأربطة الدين والعمل؛ فاعتمد رجال الرباط على أنفسهم في الحصول على كل ما يحتاجون إليه، عن طريق صيد ما يحتاجون إليه من البر والبحر، كما كانوا يعدون طعامهم بأنفسهم، مع الاكتفاء في الطعام بأقل القليل، وبالخشن من الثياب؛ فقد كانت حياتهم البسيطة متواضعة، خشنة، فهم لا يبتغون غير الدار الآخرة، وآلوا على أنفسهم الإخلاص، والتوبة، والتعبد[8].
وقد تمخضت جهود المرابطين عن إسلام شعوب (التكرور) بغرب افريقية؛ التي كانت أول الزنوج الذين اعتنقوا الإسلام، في حركة المرابطين الأولى، في أيام الشيخ عبد الله بن ياسين، فعمل التكرور بدورهم على متابعة الدعوة إلى هذا الدين، وأصبحوا دعاة للإسلام بين قبائل الولوف، والفولبي، والماندنجو، ونشروا المدارس الإسلامية في السودان الغربي، فاستوعبت هذه القبائل الإسلام، وأخذوا من حضارة العرب، وتأثروا بالشريعة الإسلامية، واستعانوا بالدعاة من المرابطين في بلاطهم؛ لتعليمهم الشريعة والقراءة، والكتابة، حتى إنهم قلدوهم في ملابسهم، ووقفوا معهم في موجة اندفاع المرابطين في عهد يوسف بن تاشفين، وجهودهم في نشر الإسلام في منتصف القرن الحادي عشر (السادس الهجري)، ويمدون نفوذهم إلى الجنوب، وإلى الجنوب الشرقي، فتكونت بعد ذلك من هذه الأراضي إمبراطورية مالي.
وانتشر مسلمو غانة الذين اعتنقوا الإسلام في اتجاه ديارا، وغلم، وميناء، واتجهوا خاصة إلى ديا، ومن ديا تحركت مجموعات من الديولا؛ الذين حملوا الإسلام إلى الحدود الشمالية لمنطقة الغابات، وهناك أنشئوا مراكز إسلامية مثل (بيجو) بالقرب من جنوب نهر الفولتا الأسود، ومن هناك انتشرت المدن التجارية مثل بوندونكو، والكونج[9]؛ وهي مدن تجارية قامت الحياة فيها على أساس الشريعة الإسلامية، والرباط في سبيل الله.
دور الموحدين الحضاري
وأما الموحدون فقد حملوا الراية في المغرب والأندلس بعد المرابطين [10]، واستمروا في عملها لأكثر من قرن (540 - 650هـ)، وما فتئوا يحملون شعلة الإسلام، ويوحدون الأمة، وكان الخليفة عبد المؤمن بن على فقهيا ومحدثا وأصوليا[11].
ولا ينكر باحث أن ثمة أخطاء وقعت فيها الدولة الموحدية، على أن تلك الأخطاء التي تقرؤها في سطور الدولة الموحدية الأولى قد اقتصرت على حياة المهدي بن ترموت تقريبا، وكما يخرج النور أحيانا من التراكمات المظلمة، وكما تنبثق الشمس من بين السحب، كذلك وقع في مسيرة الدولة الموحدية؛ فما إن مات المهدي بن تومرت سنة (524هـ) حتى بدأت موازين دولة الموحدين تعتدل على يد (عبد المؤمن بن علي)؛ الذي خلف محمد بن تومرت، ومات سنة (558هـ)... ثم ابنه يوسف بن عبد المؤمن (580هـ) فإنه يعقوب المنصور (ت 595هـ) بطل معركة (الأرك)؛ التي وطدت لدولة الإسلام في الأندلس نحو ربع قرن من الزمان، ثم الناصر (ت 610هـ)[12].
ولهذه الدولة الموحدية الفضل في الوحدة التي انتظمت المغرب والأندلس، كما أن لها اليد الطولى في عودة تونس إلى حظيرة الإسلام بعد أن استولى عليها النصارى النورمان المتعصبون.
وقد اشتهر عن الدولة الموحدية - وبخاصة في عهد أمرائها الأقوياء - ازدهارها الاقتصادي؛ الذي تمثل في أربعة مظاهر أساسية:
أولًا: كثرة المصانع سواء في المغرب أو الأندلس.
ثانيًا: التبادل التجاري مع مختلف أقاليم حوض البحر المتوسط؛ حيث كانت للموحدين مكاتب تجارية تشبه الفنادق في بعض مدن فرنسا وايطاليا، كمرسيليا وجنوة والبندقية.
ثالثًا: العملة الموحدية القوية.
رابعًا: الأسطول التجاري البحري؛ الذي كانت تفرزه صناعة السفن[13].
وفي المجال العقدي أو الفكري؛ وقف الموحدون في وجه السيطرة الكاملة التي تمتع بها فقهاء المذهب المالكي، والذين كادوا يغلقون أبواب الاجتهاد، فلما جاء الموحدون دعوا إلى الاجتهاد، وشجعوا الرجوع إلى الكتاب والسنة، وازدهرت في عهدهم دراسة علمي الكلام والأصول، وكان من نتيجة ذلك أن لان فقهاء المالكية، وتركوا التعصب المذهبي الأعمى، ومالوا إلى النظر في كتب الأصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن عذاري: البيان المغرب 1/102، بتحقيق كولان وبروفنسال - بيروت.
[2] المصدر السابق 1/196.
[3] أحمد مختار العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، ص: 188، طبع الإسكندرية.
[4] المرجع السابق.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب 1/156.
[6] أحمد مختار العبادي: في تاريخ المغرب الأندلس، ص: 188، 189.
[7] د. عصمت عبد اللطيف دندش: دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقية، ص 66، ط دار الغرب (1988م)، وانظر إبراهيم الجمل: الإمام عبد الله بن ياسين، ص: 61، دار الإصلاح بالدمام.
[8] د. عصمت عبد اللطيف دندش: المرجع السابق، ص: 74.
[9] المرجع السابق، ص: 126 - 147، وكل هذه القبائل في السودان الغربي (غرب إفريقية)، وقد سيطر الماندنجو على نهر النيجر والأماكن المطلة عليه، وأقاموا كيانات سياسية.
[10] ابن عذاري: البيان المغرب 4/7 وما بعدها.
[11] عبد العزيز بن عبد الله: تاريخ المغرب 1/114، نشر مكتبة السلام بالدار البيضاء.
[12] ابن عذاري: البيان المغرب 4/127، وما بعدها ( بتصرف).
[13] دكتور/ أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي 4/153، وما بعدها، طبع دار النهضة العربية. مصر.
التعليقات
إرسال تعليقك