التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من المواقف التي يستدل بها الكثير من العلماء على عقيدة الولاء والبراء موقف أبي عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه- من أبيه، فقد قتل أبو عبيدة أباه عبد الله بن
من المواقف التي يستدل بها الكثير من العلماء على عقيدة الولاء والبراء موقف أبي عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه- من أبيه، فقد قتل أبو عبيدة أباه عبد الله بن الجراح يوم بدر، فهل صح هذا الخبر ؟
ذكر بعض المفسرين عند قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قال القرطبي: "قال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثرِ قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ ... } الآية. قال الواقدي: "كذلك يقول أهل الشام، ولقد سألت رجلًا من بني الحارث بن فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإِسلام (1)".
وروى الحاكم في (المستدرك) في مناقب أبي عبيدة - رضي الله عنه - بسنده عن عبد الله بن شَوْذب قال: جعل أبو عبيدة بن الجراح ينصب الأل (*) لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجرّاح قصده أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية حين قتل أباه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} (2) الآية، وسكت عنه الذهبي. ورواه البيهقي من طريق الحاكم، كما في (السنن الكبرى) وقال عقبة: "هذا منقطع (3)".
وقال الحافظ ابن حجر (في الفتح) في مناقب أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-"وقُتل أبوه كافرًا يوم بدر، ويقال إنه هو الذي قتله، ورواه الطبراني وغيره من طريق عبد الله بن شوذب مرسلًا (4)".
وقال -رحمه الله- في (التلخيص): "روى الحاكم والبيهقي منقطعًا عن عبد الله بن شوذب قال: (جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينصب الآلهة لأبي عبيدة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر الجراح قصده أبو عبيدة فقتله) وهذا معضل، وكان الواقدي ينكره ويقول: مات والد أبي عبيدة قبل الإِسلام (5)".
وقال في (الإصابة) في ترجمته: "ويقال إنه قتل أباه يوم بدر ونزلت فيه {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ ... } وهو فيما أخرجه الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن شوذب قال: "جعل والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر فيحيد عنه، فلما أكثر قصده فقتله فنزلت (6). وأقوال الحافظ الثلاثة في (الفتح) وفي (التلخيص) وفي (الإصابة) ووصفه للخبر بأنه مرسل، وفي الأخرى بأنه معضل وفي الثالثة بأنّ سند جيد لا تعارض بينها عند التأمل.
وعبد الله بن شَوْذب أكثر الأئمة على توثيقه، لكن الخبر منقطع، وابن شوذب وُلد سنة 86هـ ومات سنة 144 هـ، وقيل:156هـ (7). ولذا قال ابن الملقِّن: "وهذا مرسل على قول الأكثر، وعلى قول من زعم أن المرسل لا يكون إلا من التابعين يكون معضلًا؛ لأن عبد الله هذا إنما يروي عن التابعين (8)".
فائدة
ومسألة قتلُ الابن المسلم أباه المشرك قال عنها شيخ الإِسلام ابن تيمية في الفتاوى: "إذا كان (الوالد) مشركًا جاز للولد قتله، وفي كراهته نزاع بين العلماء (9)".أ. هـ
وقد بوّب الإِمام البيهقي في (السنن) لمّا أورد الخبر بقوله: (باب المسلم يتوقى في الحرب قتل أبيه، ولو قتله لم يكن به بأس (10)).
وقد جاء عن اثنين من الصحابة فيما وقفت عليه - استئذانهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبويهما، هما: عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ وحنظلة بن أبي عامر قال ابن حجر في (الفتح): "ومن مناقبه -عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ- أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في قتله، قال: "بل أحسن صحبته"، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- بإسناد حسن، وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ أنه استأذن، نحوه، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه (11)" ا. هـ.
وقال في (الإصابة) في ترجمة حنظلة -رضي الله عنه: "وروى ابن شاهين بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: استأذن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن (عبد الله بن) أُبيّ ابن سلول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبويهما، فنهاهما عن ذلك (12). ا. هـ. والحافظ حسّن الإسناد.
هنا مع أنه في الفتح أعلّه بالانقطاع؛ لأن عروة بن الزبير -رضي الله عنه- تابعي، فهو لم يدرك القصة.
واستئذان عبد الله بن عبد الله في قتل والده رواه أيضًا الحاكم في (المستدرك) قال: حدثنا أبو العباس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول قال: "قلت: يا رسول الله، أقتلُ أبي؟ قال: لا تقتل أباك (13)".
وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وإسناده مرسل كما سبق. وعزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد) إلى الطبراني وقال: "رجاله رجال الصحيح إلا أن عروة بن الزبير لم يدرك عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ"، ثم قال: "وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: مرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعبد الله بن أُبيّ وهو في ظل أُطْم فقال: غبّر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي أكرمك لئِّن شئت لأتيتك برأسه، فقال: "لا، ولكن برّ أباك، وأحسن صحبته". رواه البزار، ورجاله ثقات (14). ا. هـ.
ورواه ابن إسحاق في السيرة في غزوة بني المصطلق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك (**) عنه. فإن كنت لا بدّ فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتْ الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا (15)".
وعاصم بن عمر تابعي، فالحديث مرسل.
فائدة
أخرج الإِمام مسلم في صحيحه (16) في قصة اعتزال الرسول -صلى الله عليه وسلم- نساءه قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: "والله ليِّن أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضرب عنقها لأضربن عنقها .." (يعني ابنته حفصة -رضي الله عنها).
فائدة
قال الصالحي (ت 942 هـ) -رحمه الله- معلقًا على استئذان عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ في قتل أبيه: "وفي هذا: العلمُ العظيم والبرهان النَيِّر من أعلام النبوة، فإن العرب كانت أشد خلق الله حميّة وتعصبًا، فبلغ الأيمان منهم ونور اليقين من قلوبهم إلى أن يرغب الرجل منهم في قتل أبيه وولده، تقربًا إلى الله تعالى وتزلّفًا إلى رسوله، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبعد الناس نسبًا منهم، أي الأنصار، وما تأخر إسلام قومه وبني عمه وسبق الإيمان به الأباعد إلا لحكمة عظيمة؛ إذ لو بادر أهله وأقربوه إلى الأيمان به لقيل: قوم أرادوا الفخر برجل منهم، وتعصّبوا له، فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبّه من كان منهم، ورهبة من الله تعالى أزالت صفة قد كانت سَدِكتْ (***) في نفوسهم من أخلاق الجاهلية، لا يستطيع إزالتها إلا الذي فطر الفطرة الأولى (17)".
(1) الجامع لأحكام القران الكريم (تفسير القرطبي). دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
(*) هكذا هنا، وفي التلخيص كما سيأتي: (ينعت الآلهة) أي يصفها، ولعله تصحيف. والألة: الحربة العظيمة النصل، جمْعها ألٌ (لسان العرب، مادة: ألل)
(2) 3/ 296.
(3) 9/ 27. دار المعرفة. بيروت، 1413 هـ
(4) فتح الباري (7/ 93).
(5) التلخيص الحبير (4/ 113) التهذيب (5/ 73).
(6) الإصابة (2/ 244). دار الكتاب العربي.
(7) تهذيب التهذيب (5/ 255).
(8) البدر المنير (9/ 79).
(9) الفتاوى (14/ 478).
(10) السنن الكبرى (9/ 26).
(11) فتح الباري (14/ 478).
(12) الإصابة (3/ 679).
(13) 3/ 679.
(14) مجمع الزوائد (9/ 318). وأورده الألباني في الصحيحة (3223) بعد أن عزاه لابن حبّان والبزّار.
(**) أي من قوله: لئِّن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
(15) الروض الأنف (6/ 43).
(16) كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير المرأة لا يكون طلاقًا إلا بالنية (10/ 83 نووي).
(***) السّدك: المولع بالشيء.
(17) سُبل الهدي والرشاد (4/ 357).
التعليقات
إرسال تعليقك