التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ما شاع ولم يثبت في غزوة حنين
3 - محاولة شيبة بن عثمان قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق -رحمه الله: "وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبد الدار، قلت اليوم (يوم حنين) أُدرك ثأري من محمَّد، وكان أبوه قُتل يوم أحد، اليوم أقتل محمدًا. قال: فأدرت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أُطق ذاك، وعلمتُ أنه ممنوع مني (24)".
ورواه البيهقي في (الدلائل) من طريق: الوليد بن مسلم، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال: لما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قد عري (*)، ذكرت أبي وعمي، وقتل علي وحمزة إياهما. فقلت: اليوم أُدرك ثأري من محمَّد، قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس قائم، عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمّه لن يخذله، قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه ولن يخذله، قال ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوّره سورةً بالسيف، إذ رُفِعَ لي شُواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت يمحشني (*)، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، والتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "يا شيب، يا شيب أُدن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان"، قال فرفعت إليه بصري، ولهو أحب إليّ من سمعي وبصري. وقال: "يا شيب قاتل الكفار (25)". قال الذهبي لما أورده: "غريب جدًا (26)".
وعزاه الهيثمي في (المجمع) إلى الطبراني، وقال: "وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف (27)". ا. هـ.
وهذا قصور في الجرح، فقد نص الذهبي، وابن حجر على أنه متروك (28)". ثم ساق البيهقي بسنده عن أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والله ما أخرجني إسلام، ولكن أنفت أن تظهر هوزان على قريش. فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله إني أرى خيلًا بُلقًا. قال: "يا شيبة، إنه لا يراها إلا كافر"، فضرب يده على صدري، ثم قال: "اللهم اهد شيبة" فعل ذلك ثلاثًا، حتى ما كان أحد من خلق الله أحبّ إليّ منه (29)". وذكر الحديث.
وأيوب بن جابر بن سيّار، ضعيف (30). وصدقة بن سعيد الحنفي قال عنه الحافظ مقبول (31). أي عند المتابعة، وإلا فليّن الحديث.
ولم أجد - فيما وقفت عليه - لشيبة بن عثمان ابنًا يسمى مصعبًا قد تُرجم له. وفي الرواة: مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة من الخامسة، فهو ابن لحفيد صاحب القصة. قال عنه أحمد: روى أحاديث مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ، وضعفه أبو داود. ووثقه ابن معين والعجلي (32). ولذا اختار الحافظ في التقريب أنه "لين الحديث (33)".
والقصة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (34) عن الواقدي عن أشياخه. والواقدي متروك كما سبق. وعزاها ابن حجر في (الإصابة) - لغير من سبق ذكره - إلى ابن أبي خيثمة عن مصعب النميري، والبغوي. ثم قال: "قال ابن السكن: في إسناد قصة إسلامه نظر (35)".
وابن السكن هو: "الإِمام الحافظ المجود الكبير أبو علي، سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن .. جمع وصنف وجرح وعدّل، وصحح وعلل (36) ت 353 هـ". وقد وصفه ابن حجر بالجلالة والإتقان (37).
المصدر:كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية
(1) الموطأ. كتاب النكاح، باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله (2/ 542).
(2) التهميد (12/ 19).
(3) إرواء الغليل (6/ 377 - 338).
(4) الروض الأنف (7/ 115، 116).
(5) الفتح الرباني (15/ 129) كتاب الوديعة والعارية، باب في ضمان الوديعة والعارية.
(6) عون المعبود (9/ 476) كتاب الإجارة، باب في تضمين العارية.
(7) المستدرك (3/ 51).
(8) التلخيص الحبير (36).
(9) المحلى (9/ 173).
(10) التمهيد (12/ 41).
(11) السنن الكبرى (6/ 90).
(12) (5/ 344 - 346).
(13) (2/ 208).
(14) كتاب الزكاة، إعطاء المؤلفة ومن يُخاف على إيمانه (7/ 155 نووي).
(15) الروض الأنف (7/ 248).
(16) المغازي (3/ 947).
(17) تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (4/ 1673) رقم 2619.
(18) المغازي (3/ 946).
(19) مسلم (15/ 73، نووي). قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: " .. وظاهره الانقطاع بين سعيد وصفوان، وعند أحمد والترمذي عن صفوان، وظاهره الاتصال، ولكن الترمذي رجّح الأول، وأيده ابن العربي في العارضة فقال: لأن سعيدًا لم يسمع من صفوان شيئًا" (فقه السيرة، ص 394).
(20) مسلم (7/ 155، نووي).
(21) مسلم (15/ 72 نووي).
(22) ذكر الواقدي أن معاوية أسلم بُعيد الحديبية، وأخفى إسلامه.
(23) سير أعلام النبلاء (3/ 122).
(24) الروض الأنف (7/ 169).
(*) أي: انكشف.
(*) أي: يحرقني، وفي الحديث "فيخرجون من النار وقد امتحشوا"
(25) دلائل النبوة (5/ 145).
(26) المغازي ص 583.
(27) مجمع الزوائد (6/ 184).
(28) المغني في الضعفاء (1/ 432) لسان الميزان (7/ 454) والتقريب (2/ 401).
(29) الدلائل (5/ 146).
(30) التقريب (1/ 89).
(31) (1/ 366).
(32) التهذيب (10/ 162)
(33) 2/ 215
(34) 8/ 213
(35) الإصابة (2/ 157)
(36) سير أعلام النبلاء (16/ 117)
(37) الإصابة (4/ 475).
مجموعة من الأخبار والروايات التي شاعت ولم تثبت في غزوة حنين، وذلك من الناحية الحديثية، ومنها: تخييره صفوان بن أمية، محاولة شيبة بن عثمان قتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم، وإعطاء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مائة من الإبل.
1- تخييره صفوان بن أمية
أخرج الإِمام مالك رحمه الله في الموطأ عن ابن شهاب أنه بلغه: "أن نساءً كنّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإِسلام، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانًا لصفوان بن أمية، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام، وأن يَقْدم عليه، فإن رضي أمرًا قَبِلَه، وإلاّ سيّره شهرين، فلما قدم صفوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، ناداه على رؤوس الناس، فقال: يا محمَّد، إن هذا وهب بن عمير جاءني بردائك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا قبلته، وإلا سيرتني شهرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل أبا وهب، فقال: لا والله لا أنزل حتى تُبيّن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل لك تسير أربعة أشهر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل هوازن بحنين فأرسل إلى صفوان بن أمية يستعيره أداة، وسلاحًا عنده، فقال صفوان: أطوعًا أم كرهًا؟ فقال: بل طوعًا، فأعاره الأداة والسلاح التي عنده، ثم خرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينًا والطائف، وهو كافر، وامرأته مسلمة، ولم يفرّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين امرأته، حتى أسلم صفوان، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح (1)".
قال ابن عبد البر رحمه الله: هذا الحديث لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور، معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير وشهرة هذا الحديث أقوى من إسنادة إن شاء الله (2)". وقال الألباني رحمه الله: "هذا إسناد مرسل أو معضل (3)".
والقصة رواها أيضًا ابن إسحاق في السيرة فقال: حدثني محمَّد بن جعفر، عن عروة بن الزبير، قال: خرج صفوان بن أمية يريد جُدّة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهيب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك ليقذف بنفسه في البحر فأمنّه؛ صلى الله عليك، قال: هو آمن، قال: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه، وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ... فرجع معه، حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال صفون: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني، قال: صدق، قال فاجعلني فيها بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر (4)". وهذا إسناد مرسل.
تنبيه
أورد ابن كثير رحمه الله هذا الخبر في البداية والنهاية، عن ابن إسحاق موصولًا: "عروة عن عائشة" فلعلها زيادة من بعض النسّاخ.
واستعارته صلى الله عليه وسلم أدرعًا وسلاحًا من صفوان، أخرجه الإِمام أحمد (5)، و أبو داود (6)، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووفقه الذهبي (7)، والحديث اختلف أهل الحديث في تصحيحه فأعلّ ابن حزم وابن القطان طُرق هذا الحديث (8): قال ابن حزم: "ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره (يعني حديث يعلي بن أمية)، وأما ما سواه فلا يساوي الاشتغال به (9)"، وأشار أبو عمر بن عبد البر إلى الاضطراب في هذا الحديث ثم قال: "ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة في تضمين العارية. والله أعلم (10)".
وقال البهيقي بعد أن رواه: "وبعض هذه الأخبار وان كان مرسلًا فإنه يقوى بشواهده مع ما تقدم من الموصول. والله أعلم (11)". والحديث صححه الشيخ الألباني بتعدد طرقه كما في (الإرواء (12)) و (السلسة الصحيحة (13)) وانظر نصب الراية للزيلعي (3/ 377) و (4/ 116، 117).
2- قول الرسول عن عباس بن مرداس: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه
أخرج الإِمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - في تقسيم غنائم غزوة حنين- قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نَهْبي ونهب العُبَيْد ... بين عُيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وماكنت دون أمرى منهما ... ومن تخفض اليوم لايُرفع
فْأتمّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة (14)".
وفي رواية ابن إسحاق [[زيادة]] في أسماء المؤلفة قلوبهم، وأربعة أبيات أخرى، وفي آخره: "قال ابن إسحاق: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم (15)".
وأخرجه أيضًا الواقدي (16) وابن سعد من طريقين أحدهما عن الواقدي. والآخر عن عارم بن الفضل ... عن هشام بن عروة عن عروة: "أن العباس بن مرداس قال أيام خيبر ..."، والخبر مرسل، وفيه أن ذلك يوم خيبر.
قال الحافظ العراقي -رحمه الله: "وأما زيادة "اقطعوا عني لسانه" فليست في شيء من الكتب المشهورة، وذكرها ابن إسحاق في السيرة بغير إسناد (17)".
3- قول صفوان بن أمية: ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلاَّ نبي
روى الواقدي أن صفوان بن أمية رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين، ينظر إلى الغنائم، فجعل ينظر إلى شِعْب ملأى نِعَمًا وشاء ورعاء، فأدام النظر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: "أعجبك يا أبا وهب هذا الشِّعب؟ " قال: نعم، قال: "هو لك وما فيه" فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلا نبي وأشهد أنك رسول الله (18).
والواقدي كما سبق متروك على سعة علمه.
ويغني عن هذه الرواية ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النَعَم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلىّ (19)".
وفيه عن رافع بن خديج قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل ... (20)".
وسخاؤه -صلى الله عليه وسلم- لا يُدرك، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (21)".
2 - إعطاء معاوية بن أبي سفيان مئة من الإبل
ومنها ما ذكره الواقدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مائة من الإبل، وأربعين أوقية. أي من غنائم حنين. قال الإِمام الذهبي رحمه الله لما أورد ذلك في (السير): "قلت: الواقدي لا يعي ما يقول: فإن كان معاوية كما نقل قديم الإِسلام (22)، فلماذا يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولو كان أعطاه، لما قال عندما خطب فاطمة بنت قيس: "أما معاوية فصعلوك لا مال له (23)".
التعليقات
إرسال تعليقك