التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
اهتمَّ خلفاء المسلمين بالتكافل الاجتماعي لبناء مجتمعٍ يتعاون فيه الجميع ويُغاث فيه المكروب والملهوف والمحتاج، مسلمًا كان أو غير مسلم، عملًا بوصايا
التكافل والإغاثة في الخلافة الأمويَّة (41 – 132هـ)
اهتمَّ خلفاء المسلمين بـ التكافل الاجتماعي لبناء مجتمعٍ يتعاون فيه الجميع ويُغاث فيه المكروب والملهوف والمحتاج، مسلمًا كان أو غير مسلم، عملًا بوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرًا على منهج الإسلام في التكافل والإغاثة.
وقد تعدَّدت صور التكافل والإغاثة في الخلافة الأموية، تبعًا لكلِّ عهد، وسياسة كلِّ أمير، ولكنَّها اجتمعت -مع ما بينها من تباين- على قدرٍ كبيرٍ من إرساء مبدأ التكافل والاهتمام بالمحتاجين، وإغاثة كلِّ من احتاج الغوث. وقد عرضتُ لمظاهر التكافل في هذه الخلافة من خلال ما يلي:
عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41 – 60هـ):
في مجال التكافل الاجتماعي كانت النفقات تُعطى للفقراء في صورةٍ عينية؛ فقد ورد أنَّ الفقراء في إقليمي الحجاز والعراق خلال الفترة (45 - 53هـ) في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كانوا يحملون بطاقات محدَّد لهم فيها الكميَّة المخصَّصة لكلِّ فردٍ منهم من المعونة العينيَّة[1].
وكان بالجزيرة مكان الروضة قبل أن تُبنى بها دار صناعة السفن في عهد معاوية، خمسمائة عاملٍ مستعدٍ لأيِّ حريقٍ يكون في البلاد، أو هدمٍ للإعانة في الكوارث، وتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل المنطقة[2]. ومن التكافل الاجتماعي في عهد معاوية رعايته لأبناء الشهداء في إدارة شئونهم ورعاية أحوالهم والفرض لهم[3]؛ فقد كان يقول لجلسائه: يا هؤلاء، إنَّما سُمِّيتم أشرافًا لأنَّكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا. فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: أفرضوا لولده[4]. وعندما دخل عبد الله بن صفوان بن أميَّة على معاوية رضي الله عنه وطلب منه أن يفرض للمنقطعين من ديوان العطاء، وذكَّره بأن لا يغفل عن قواعد قريش والبرِّ إليهم، وأن يُقدِّم لهم الخدمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي تكفل لهم الحياة الرغدة[5]، كانت الاستجابة العاجلة من معاوية رضي الله عنه.
وأمَّا في المجاعة فكانت الدولة تخرج من بيت المال وتُطعم الناس، وقد أصابت المجاعة في خلافة معاوية رضي الله عنه مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمهم الوالي حتى أنفق ما في بيت المال وأدان.
ولأهل البادية على بيت المال حق المغوثة والمواساة في المجاعة أيضًا، فأصابت المجاعة بادية البصرة، وتحمَّل أهلها إلى البصرة، فقال زياد بن أبيه لأهل البصرة: إنَّ عشائركم قد وردت علينا، فاختاروا أن تأخذوا أنصاف أَعطياتكم وأرزاقكم؛ فنقوِّيهم بها مع ما لهم عندنا، أو تكفينا كلَّ عشيرة من فيها. فمنهم من ضمَّ عشيرته، ومنهم من طابت نفسه بنصف عطائه ورزقه وأرزاق عياله، وكان لكلِّ عيال جريبات ومائة درهم، ومعونة الفطر خمسون درهمًا، ومعونة الأضحى خمسون درهمًا، وكان زياد يعهدهم كلَّ يوم، ويُشرف على رعايتهم بنفسه[6].
عهد عبد الملك بن مروان (65 – 86هـ):
كان والي مصر من قِبَل عبد الملك بن مروان عبدُ العزيز بن مروان يحفر الخلجان بها، كما كانت له ألف جفنة كلَّ يومٍ تُنصب حول داره، ومائة جفنة يُطاف بها على القبائل، تُحمل على عجلٍ من أجل الإطعام[7].
عهد الوليد بن عبد الملك (86 – 96هـ):
كان الخليفة الوليد بن عبد الملك أول من أسَّسَ مستشفى خاصًّا بالمجذومين (بيمارستان) في دمشق وذلك سنة 88هـ، وجعل فيه أطباء مهرة، وأجرى عليهم الأرزاق، وأَمَرَ بعزلهم عن الأصحَّاء كي لا تنتقل العدوى من المصابين إلى الأصحاء، وهذا ما يُعرف في التاريخ بدور المجذومين[8]. وتُعدُّ مجذمة الوليد بن عبد الملك هي الأولى على مستوى العالم، ثم تعدَّدت الملاجئ بعد ذلك في مختلف البلاد الإسلامية لبذل العناية الإنسانية لهؤلاء التعساء. وتعدُّ المجاذم الإسلامية أول دورٍ عولج فيها المصابون بالجذام معالجةً فنيَّة[9].
وفي عهد الوليد -أيضًا- أعطى المجذومين حتى أغناهم عن السؤال، وجعل لكلِّ مُقْعَدٍ خادمًا، ولكلِّ ضريرٍ قائدًا، وأجرى النفقة عليهم، واهتمَّ باليتامى ورتب لهم المؤدِّبين، ورزق الفقراء والضعفاء وحرم عليهم سؤال الناس، وبالغ في الإحسان إلى الزَّمْنَى؛ وأفردت الدولة ديوانًا خاصًّا بالزَّمْنى أُطلق عليه اسم "ديوان الزَّمْنَى"[10].
وقد اهتمَّ الوليد بن عبد الملك -أيضًا- بتخصيص الأرزاق للفقهاء والضعفاء والفقراء، وحرَّم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم كما فرض للعميان والمجذومين[11]؛ فقد أعطى المجذومين وقال: لا تسألوا الناس[12].
عهد عمر بن عبد العزيز (99 – 101هـ):
يُعدُّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أحد رموز البرِّ والخير في الدولة الأمويَّة بأكملها، وهو نموذجٌ ينبغي الاقتداء به، والسير على منواله؛ فقد كانت السياسة الحكيمة التي اتبعها رحمه الله في الأمور الماليَّة خلال الفترة الوجيزة التي تولَّى فيها خلافة المسلمين كفيلةً بتوفير الرخاء الاجتماعي والاكتفاء والغنى، بل والثراء للمجتمع الإسلامي في تلك الحقبة من تاريخ المسلمين.
وقد تنوَّعت وسائله رحمه الله في تحقيق التكافل الاجتماعي بين الرعيَّة ما بين سَنِّ القوانين، ومتابعة الولاة، والإشراف بنفسه على أمور الأموال وما يتعلق بها؛ نظرًا إلى حساسية الأمر وأهميَّته في حياة الأمَّة، وفي هذه السطور نستعرض بعضًا ممَّا أُثر عنه رحمه الله في هذا المجال، وذلك من خلال النقاط الآتية:
إغاثة الغارمين:
كتب رحمه الله إلى عمَّاله: أن اقضوا عن الغارمين، فكُتب إليه: إنَّا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته. فكتب عمر: لا بد للرجل من المسلمين من مسكنٍ يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين[13]. ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرَّف الأئمَّة العادلون بأموال الأمَّة؛ حيث يغنون بها فقيرها، ويجبرون بها كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون بها عن معسرها، ويسدُّون بها خَلَّة مُعوزِها[14].
إغاثة الأسرى المسلمين:
أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولًا، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمرَّ بموضعٍ فسمع فيه رجلًا يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام -مرتين أو ثلاثًا- ثم سلَّم عليه فقال له: وأنَّى بالسلام في هذا البلد! فأعلمه أنَّه رسول عمر إلى صاحب الروم، فقال له: ما شأنك؟ فقال: أُسرت في موضع كذا وكذا، فأُتي بي إلى صاحب الروم، فعرض عليَّ النصرانيَّة فأبيت، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عينيَّ وصيَّرني إلى هذا الموضع، يُرسل إليَّ كلَّ يومٍ بحنطةٍ أطحنها وبخبزةٍ آكلها. فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيت دموع عمر قد بلَّت ما بين يديه، ثم أمر فكتب إلى صاحب الروم: أمَّا بعد، فقد بلغني خبر فلان ابن فلان فوصف له صفته، وأنا أُقسم بالله لئن لم تُرسله إليَّ لأبعثنَّ إليك من الجنود جنودًا، يكون أولها عندك وآخرها عندي. ولمـَّا رجع إليه الرسول قال: ما أسرع ما رجعت! فدفع إليه كتاب عمر بن عبد العزيز، فلمَّا قرأه قال: ما كنَّا لنحمل الرجل الصالح على هذا؛ بل نبعث إليه به. قال: فأقمت أنتظر متى يخرج به، فأتيته ذات يومٍ فإذا هو قاعدٌ قد نزل عن سريره أعرف في وجهه الكآبة، فقال: تدري لم فعلت هذا؟ فقلت: لا. وقد أنكرت ما رأيت، فقال: إنَّه قد أتاني من بعض أطرافي أنَّ الرجل الصالح قد مات، ولذلك فعلت ما فعلت. ثم قال: إنَّ الرجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يترك بينهم إلَّا قليلًا حتى يخرج من بين أظهرهم. فقلت له: أتأذن لي أن أنصرف؟ وأيست من بعثه الرجل معي، فقال: ما كنَّا لنُجيبه إلى ما أمر في حياته ثم نرجع فيه بعد مماته، فأرسل معه الرجل[15].
إغاثة راغبي الزواج:
اهتمَّ عمر بن عبد العزيز بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، فقال أبو العلاء: قُرِئَ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوَّج امرأةً لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله[16]. وهذا قرارٌ مهمٌّ في إصلاح المجتمع؛ لأنَّ صلاحه يتوقف على تحصين أبنائه بالزواج وظفرهم بالسعادة الزوجية، وقد يكون المهر عائقًا لبعض الفقراء دون الزواج، خصوصًا في حال غلاء المهور، فإذا كانت الدولة تُوفِّر ذلك لمن لا يستطيع ذلك فإنَّها تُسهم في تكوين المجتمع الصالح، وحفظه من أسباب الفساد والاضطراب[17].
إغاثة الفقراء:
لمـَّا قَدِمَ على عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعض أهل المدينة جعل يسألهم عن أهل المدينة، يقول: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ فيقولون: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين. فيقول: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ فيقولون: قد قاموا منه وأغناهم الله. فيقول: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط للمسافرين، فالتمس ذلك منهم بعد. فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يُعطينا عمر بن عبد العزيز[18].
وهذا من نتائج المنهج العادل الذي سلكه رحمه الله في توزيع أموال المسلمين، حيث حُرِمَت القلة المتمكّنة من الإسراف، وأصبح ما يُصرف لفردٍ من هذه الفئة يُصرف لعشرات المسلمين، فوصل المال العام إلى فئاتٍ لم يكن يصل إليها قبل، فاستغنوا به عن بعض الأعمال الشاقَّة التي كانت تُدِرُّ عليهم مبالغ زهيدة[19].
عهد هشام بن عبد الملك (105 – 125هـ):
وقد مثَّلَت نفقات التكافل الاجتماعي بندًا محدَّدًا من بنود النفقات العامَّة للدولة في خلافة هشام بن عبد الملك، ومثال ذلك ما رواه الماوردي أنَّه كان يوجد ضمن بنود النفقات العامَّة السنويَّة في إقليم العراق خلال الفترة (120 - 126هـ) مبلغ عشرة آلاف درهم، مخصَّصًا لبيوت رعاية الأحداث، والعواتق[20].
[1] نجدة خماش: الإدارة في العصر الأموي ص335.
[2] السيوطي: حسن المحاضرة 2/378.
[3] المسعودي: مروج الذهب 3/39.
[4] السابق 3/74.
[5] مصعب الزبيري: نسب قريش ص389 بتصرف.
[6] محمد ضيف بطانية: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ص350 وما بعدها.
[7] الكندي: الولاة والقضاة ص313.
[8] عبد الله السعيد: المستشفيات الإسلامية ص80.
[9] السابق: الصفحة نفسها.
[10] محمد ضيف بطانية: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ص350 وما بعدها بتصرف.
[11] عبد الشافي عبد اللطيف: العالم الإسلامي في العصر الأموي ص158.
[12] ابن كثير: البداية والنهاية 12/609.
[13] ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص163، 164.
[14] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 15/77.
[15] ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص168.
[16] ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/374.
[17] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 15/139.
[18] عمر بن محمد الخضر الملاء: الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز 1/151 بتصرف.
[19] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 15/138.
[20] الماوردي: الأحكام السلطانية ص175، 176.
التعليقات
إرسال تعليقك