ملخص المقال
سليمان المهري أمير الملاحة ومعلم البحر، أحد أعلام الملاحة البحرية العربية، وصاحب العمدة المهرية، فماذا عن حياته وإسهاماته ومؤلفاته؟
يُعدُّ الرُّبَّان سليمان المهري (النصف الأول من القرن العاشر هجريًّا= السادس عشر ميلاديًّا)، الذي أُطلق عليه "معلِّم البحر"، من الربابنة العرب الذين أرسوا قواعد الملاحة على أسس وقوانين ووضعوا تقاليدًا ودستورًا راسخًا للبحر، تمتدُّ فروعه إلى دساتير البحر المعروفة اليوم عند الأمم البحريَّة القديمة؛ بل يُعتبر أحد رواد الملاحة البحريَّة ورموزها، الذين أضافوا إلى مكتبة العلوم البحريَّة العربيَّة والإسلاميَّة رصيدًا كبيرًا من العلوم البحريَّة والمعارف الملاحية، لعلَّ أشهرها كتابيه: "العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية"، "المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر".
اسم سليمان المهري ونسبه
سليمان بن أحمد بن سليمان المهري، ربَّان بحري وعالم فلكي عربي، من مدينة الشحَّر على الساحل الجنوبي لحضرموت ببلاد اليمن، يمتدُّ نسب المهري إلى قبيلة مهرة بن حيدان من قضاعة؛ حيث ينحدر من فرع آل باعوين المهرية، الذين اتَّخذوا مدينة الشحر موطنًا لها، وأبلت هذه القبيلة بلاءً حسنًا في الدفاع عن مدينة الشحر حين تعرَّضت لغزوات القراصنة البرتغاليُّون في القرن العاشر الهجري، ويذكر الزركلي أنَّ المهري كان من سكَّان بلدة سُقُطْرَى، وهي أرخبيل يمني مكوَّن من ستِّ جُزُر على المحيط الهندي قبالة سواحل القرن الإفريقي بالقرب من خليج عدن، وقد اشتهر سليمان المهري في (القرن التاسع والعاشر الهجريَّين= الخامس والسادس عشر الميلاديَّين).
نشأة سليمان المهري
كانت مدينة الشحر إحدى البلاد اليمنيَّة التي اشتهر سكَّانها بالملاحة، وكانت من المراكز التعليميَّة الهامَّة في جنوب الجزيرة العربيَّة، وفيها تلقَّى الشيخ سليمان بن أحمد المهري علومه على يد كبار المشايخ، وأظهر تفوُّقًا في تحصيلها والإلمام بها خاصَّةً علوم الفلك وشئون الملاحة.
بين ابن ماجد وسليمان المهري
كان الشيخ سليمان المهري معاصرًا لأسد البحار أحمد بن ماجد (حوالي ٨٣٦-٩٢٣هـ= ١٤٣٢–١٥١٧م)، وقد اعتبر الزركلي -وعنه أخذ آخرون- أنَّ المهري تلميذ ابن ماجد، وأنَّه أخذ العلم على مؤلَّفاته، وأنَّه الممثِّل العربي الثاني للجغرافيا الملاحيَّة بعد أحمد بن ماجد.
وفي هذا الصدد يردُّ الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف اليمني، يقول: "الشيخان المهري وابن ماجد خاضا التجربة وعراكها على سطح المحيط الهندي، ولكنَّهما عاشا في موقعين مختلفين؛ فالمهري من قاطني ميناء الشحر الواقع على الشاطئ الجنوبي لجزيرة العرب، وعلى مدخل خليج عدن وعلى خط طول 49 درجة 34 ق وعرض 14 درجة 44 ق، وابن ماجد من قاطني ميناء جلفار (رأس الخيمة الآن) الواقعة على خليج عمان بخط طول 56 درجة 4 ق وعرض 25 درجة 38 ق، وليس بينهما فاصل زمني كبير يُمكِّن الخلف من الإبداع وتفنيد آراء معاصريه، مع صعوبة التواصل بينهما، وإن تمَّ هذا التواصل فلم يكن عميقًا ومؤثِّرًا على ما يبدو، فلم يُشِرْ كلٌّ من الشيخين للآخر في كتبه سواء على سبيل الذكر أو النقل أو التفنيذ؛ ففي الفترة التي يُجرِّب ويختبر الأوَّل البحر ويختزن حصيلته العلميَّة ويُدوِّن ملاحظاته ومعلوماته المستجدَّة في سبيل إرشاداته، كان الثاني يقوم بالتجربة نفسها وتتمُّ معه العمليَّة نفسها تخزين الحصيلة العلمية، ولذلك عندما يُقال: إنَّ المهري يشرح ما يُورد معاصره ابن ماجد من معلومات؛ فإنَّه إنَّما يعمق ويُضيف -أيضًا- وِفْقَ تجربته هو واستنتاجاته في موقعه، فليس في هذا تقليدٌ بل تأكيدٌ لتجربة ابن ماجد وإغناء لها؛ فالاثنان كما قلنا خاضا التجربة على معتركٍ واحد، والأحرى القول: إنَّ مؤلَّفات المهري تأكيدٌ لمعارف ابن ماجد وليس شرحًا لها، إنَّ منهجه في البحث هو أسلوب مفكِّري عصره عامَّة".
نشاط سليمان المهري البحري
تقع فترة نشاط سليمان المهري في النصف الأوَّل من القرن (العاشر الهجري= السادس عشر)، عندما عرف ربَّانًا خبيرًا في البحار، وقد جاب سواحل إفريقيا الشرقية وسواحل الهند وجزر الملايو ووصف خطوط الملاحة لهذه الجزر.
قيمة المهري في الجغرافيا الملاحية
أضاف سليمان المهري كثيرًا إلى علم البحار، وصحَّح الأرقام الخاصَّة بالجداول البحريَّة التي أوردها ابن ماجد، ورتَّب المسافات البحريَّة الموافقة للارتفاعات المختلفة المقيسة بالأصابع لتحديد الأمكنة على الخريطة البحريَّة.
وقد وصل المـَهْري إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ المعرفة بالشئون البحريَّة إنَّما تقوم على أساسٍ مزدوجٍ من سلامة التفكير والخبرة العمليَّة، وأشار دي سلان De Slane إلى أسلوب المهري ووصفه أنَّه يحفل بالغرابة وكثرة المصطلحات الفنِّيَّة التي لايتسنَّى فهمها إلَّا لملَّاحي المحيط الهندي دون غيرهم.
وعلى الرغم من أنَّ نشاط المهري كان في عهد سيطرة البرتغاليِّين، فإنَّه لم يتأثَّر بهم؛ بل كان مذهبه العلمي في التأليف شرقيًّا خالصًا.
على أنَّ الأهم أنَّ منهج الشيخ سليمان المهري كان معتمدًا على التجرية والملاحظة؛ فقد ترعرع المهري وعاش على شاطئ المحيط الهندي يُراقب هيجانه وهدوءه، ويُلاحظ تغيُّرات الأنواء فيه وهبوب الرياح عليه، ولذلك جاءت معارفه مستنبطة من التجربة الحقَّة، فإنَّه في مواقع كثيرة من كتابه "العمدة المهرية في العلوم البحرية" يُؤكِّد على المعارف التجريبيَّة؛ فعنده أنَّ التجربة أثبت وأوفى من النظريَّة، والتي يُكنِّيها بالمعارف العقليَّة، ولكنَّه مع ذلك لا يستهين بها، ولا يتمُّ كمال المعرفة إلَّا بتوافرهما معًا، وفي ذلك يقول: "فإن قيل أصح العقلي أم التجريبي؟! أقول: أي. فإن قال قائل: أي العلمين أصح؛ العقلي أم التجريبي؟! قلت: وفي بعض التجريب، وفي بعض العقل. أقول: أي بعض العقليَّات أصحُّ من بعض التجريبيَّات وبعض التجريبيَّات أصحُّ من بعض العقليَّات. وهذا البحث أعلى المراتب لأنَّه يحتاج الى تمييز العقليَّات من التجريبيَّات وترجيح بعضهما على بعض، وكذلك لمحقِّقي الفن. قلت أمَّا الدير والمواسم تجريبٌ محض، وتصوير الكواكب في الأفلاك وقواعد الحساب في الأعداد والأرقاق وما تولَّد منهما عقلٌ محض، والقياسات والمسافات تجريبٌ وعقل". وفي مقامٍ آخر من كتابه نفسه يقول: (أقول: أي أصل علم البحر، إنَّما هو مستخرج من نظر العقل مع استكمال التجربة، وهما أصلان له).
ومن خلال إيمانه بثبوت التجربة كأصلٍ من أصول علم البحار وفنِّ الملاحة، فإنَّه لا يقتنع بما أورده السلف وما وضعوه من نظريَّات؛ بل كان يُطابق النظريَّة بتجربته، فإن توافقت وإلَّا فإنَّه يُعارضها، ويعتمد ما جرَّبه، وفي ذلك يقول: (وأمَّا وضعي من الأوزام في الترفات وما بين الأخنان التي وضعتها في كتابي المسمَّى بالمنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر، فهو أقرب للصحَّة من صنعهم المتقدِّم).
فالتجربة عنده أساسيَّة لاستكمال بلوغ أعلى المراتب في علم البحار، وما دام أساس علم الملاح المهري مصدره التجربة بتوافقها مع النظريَّة، فإنَّ ما كتبه سلفه من الربابنة وعلماء الفلك، وهم الذين خاضوا التجربة في مواقع تختلف عن موقع تجربته وأقاموا عليها نظرياتهم وعلمهم أنَّ ما كتبه هؤلاء لا يتَّفق في بعضه مع ما توصَّل إليه من نتائج ووضعه من نظريَّات، ولذا نشأ خلافٌ بيِّنٌ في المعارف، ولم يُناقشها أحدٌ من الباحثين؛ فلقد كانت مصنَّفات ابن ماجد ومن سبقه من الرحَّالة والملَّاحين العرب أكثر شهرةً وانتشارًا من مصنَّفات المهري، التي اكتُشفت ملحقة في مجلَّدٍ واحدٍ برسائل ابن ماجد.
مؤلَّفات المهري البحرية
انعكس التفوُّق العلمي للمهري على مصنَّفاته القيمة عن الملاحة والعلوم الفلكيَّة والبحريَّة، ولتبحُّر سليمان المهري في العلوم؛ فقد اجتهد في تأليف عشرات الكتب في علوم البحر وأنوائه، وأحوال النجوم والرياح، ووصف الطرق البحرية بين بلاد العرب، والبلدان المجاورة، من الهند وجاوة والصين، وهي مكتوبة نثرًا بأجمعها في باريس، ومن أهم مصنَّفات الشيخ سليمان المهري:
1- قلادة الشموس واستخراج قواعد الأسوس.
2- تحفة الفحول في تمهيد الأصول: شرح فيها طريقة العلماء القدامى في مختلف فروع العلوم.
3- شرح تحفة الفحول في تمهيد الأصول.
4- المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر.
5- العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية.
6- الأرجوزة السبعية.
العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية
يُعدُّ أكبر مؤلفات المهري، يرجع تأليفه إلى عام (917هـ=1511م)، وهو مقسَّمٌ إلى سبعة أبواب، وضمَّن كلَّ بابٍ فصولًا عدَّة، وبحث في أبوابها السبعة: أصول الفلك البحري، وتحدَّث عن النجوم وجميع ما يتعلَّق بها من شئون الملاحة، والطرق البحرية الواقعة فوق الريح وتحت الريح، ودرس كذلك الطرق المارَّة على الجزر الكبرى المختلفة، والقياسات مثل: قياس النجم القطبي، وفصَّل -أيضًا- في الرياح الموسميَّة السائدة بالمحيط الهندي، ووصف البحر الأحمر والطرق الملاحية فيه مبيِّنًا المخاطر التي ينبغي على الملَّاحين تجنُّبها.
لقد ظلَّ كتاب العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية مغمورًا في المكتبة الأهليَّة بباريس إلى عام 1912م، حيث اكتشفت مخطوطتان، الأولى كانت موجودة بالمكتبة الأهلية منذ القرن الثامن عشر، والثانية كانت قد اشترتها المكتبة من أستاذ عربي كان يُقيم بفرنسا، هو سليمان الجزائري عام 1860م، وقد اهتمَّ بهاتين المخطوطتين جبرائيل فران G.ferrand وهو من كبار المتخصِّصين في تاريخ الملاحة في المحيط الهندي والشرق الأقصى.
وقد اهتمَّ بهما الباحث الفرنسي "فران" ووضع مشروعًا متكاملًا لدراسة تلك المخطوطتين بعناية وصبر حتى أنجزه عام 1925م في عدَّة مجلدات، وقد نشر النصوص العربية بطريق التصوير؛ أي دون تحقيق مباشر للنص، وقد ألقت تلك المخطوطة من كتاب العمدة المهرية الضوء على آفاق الملاحة العربية ووضع قواعد العلوم البحرية.
المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر
قسَّمه المهري إلى سبعة أبواب أيضًا، ووصف فيه السواحل القارِّيَّة للمحيط الهندي والموانئ الموجودة على السواحل المشهورة، ووصف الجزر الكبرى المعمورة المشهورة، والمسافات بين بلاد العرب وساحل الهند الغربي، وموانئ خليج البنغال من ناحية، وبين ساحل إفريقيا الشرقي وموانئ سومطرة وجاوة وبالي من ناحية أخرى، وذكر الرياح والعواصف والمخاطر، وعالج في الباب السادس العلامات التي تُشير إلى اقتراب الأرض على السواحل الغربية للهند وإفريقيا الشرقية، وحلول الشمس والقمر منطقة البروج.
تاريخ وفاة سليمان المهري
كما لم تُحدِّد المصادر تاريخ مولد المهري، فإنَّها كذلك لم تُحدِّد تاريخ وفاته، وقد تعدَّدت الآراء في ذلك، فذكر فريق من العلماء أنَّ وفاته بعد عام (917هـ=1511م) عندما كان حيًّا وقت تصنيف كتابه العمدة المهرية، وذكر آخرون أنَّه تُوفِّي سنة (950هـ=1543م)، بينما ذكر فريقٌ ثالثٌ أنَّه تُوفِّي نحو سنة (961هـ=1554م).
______________________
المصادر والمراجع:
- إغناطيوس يوليانوڤتش كراتشكوڤسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم، الناشر: دار الغرب الإسلامي - بيروت، 1987م.
- الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر - أيار/ مايو، 2002م.
- عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، الناشر: مكتبة المثنى - بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت، د.ت.
- فياض سكيكر: سليمان المهري، الموسوعة العربية العالمية، المجلد التاسع عشر، ص758.
- الحضارمة والمعارف الملاحية البحرية، مقال على موقع تاريخ وتراث حضرموت.
التعليقات
إرسال تعليقك