التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1479م قرَّر السلطان محمد الفاتح غزو رودس، وكان هذا القرار في هذا التوقيت مُدْهِشًا للجميع.
كان السلطان الفاتح يخشى من التقدُّم صوب إيطاليا وفي ظهره قوَّاتُ فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس، ولذلك آثر تأجيل مسألة فتح إيطاليا إلى حين الاطمئنان على الوضع العسكري في هذه الجزيرة الاستراتيجيَّة الخطرة، فصار بذلك التعامل مع ملفِّ رودس أولويَّةً للدولة العثمانية..
يُضاف إلى هذا أنَّ الفاتح كان يقرأ من تحرُّكات ماتياس، وطريقته في إدارة الأمور، ما أشرنا إليه سابقًا من نهجٍ دفاعيٍّ بحتٍ يتجنَّب إثارة الدولة العثمانيَّة، ومِنْ ثَمَّ فلم يكن الفاتح متوقِّعًا من المجر أن تغزو دولته في أيِّ منطقة، كذلك آثر أن ينتظر ردَّ فعلٍ من استيفين الثالث، وهل سيكتفي بمنع الجزية أو سيُطوِّر تمرُّدَه إلى صراعٍ عسكري؟
بوضع هذه التصوُّرات إلى جوار بعضها البعض صار الأمثل عند الفاتح أن يُحاول إنهاء مشكلة رودس عسكريًّا؛ حيث إنَّهم رفضوا في المباحثات الأخيرة دفع الجزية، وآثروا أن يظلوا على حالة حربهم مع الدولة العثمانيَّة.
متى سيكون هذا التحرُّك البحري؟!
قرَّر الفاتح أن يكون في أوائل ديسمبر من العام نفسه! أي بعد شهرٍ تقريبًا من حدوث كارثة حقل الخبز! وهو قرارٌ جريءٌ يُوضِّح مدى الصلابة الفكريَّة والذهنيَّة عند الفاتح رحمه الله، الذي لم تُفقده الأزمة الكبيرة التي تعرَّض لها جيشه في ترانسلڤانيا قدرته على المباغتة، وأخذ القرارات التي تُذهل أعداءه..
كان قرار غزو رودس في هذا التوقيت مُدْهِشًا للجميع لثلاثة أسباب؛ الأوَّل أنَّه يأتي بعد أزمة حقل الخبز بشهرٍ واحد، فكان المتوقَّع أن تهدأ الحركة العسكريَّة للجيوش العثمانيَّة فترةً حتى تستعيد عافيتها من ناحية، وحتى تحسب ردود الفعل على هزيمة ترانسلڤانيا من ناحيةٍ أخرى، والثاني أنَّ التحرُّك العسكري سيكون في اتجاهٍ جغرافيٍّ معاكسٍ تمامًا للتحرُّك العثماني في ترانسلڤانيا؛ حيث تقع رودس في بحر إيجة جنوب الدولة العثمانية، فهو تحرُّكٌ جديدٌ بعيدٌ تمامًا عن التحرُّكات التي قامت بها الدولة العثمانيَّة في الشهور الأخيرة، والسبب الثالث والأخير هو توقيت هذا التحرُّك، وهو شهر ديسمبر 1479م؛ حيث كان من عادة الجيوش في هذه الفترة الانتظار إلى حلول فصل الربيع، خاصَّةً أنَّ المعركة التي تحدث ستكون في البحر، ومن المعروف أنَّ أعاصير البحر في الشتاء تكون خطرة، ولكن يُخَفِّف من وطأة هذه المسألة الأخيرة أنَّ درجات الحرارة في رودس لا تنخفض كثيرًا في فصل الشتاء، وإن كان معدَّل الأمطار فيها يكون مرتفعًا.
تقع جزيرة رودس على مقربة جدًّا من الساحل الجنوبي الغربي للأناضول (خريطة رقم 17) (على بعد ثمانية عشر كيلو مترًا فقط من الساحل في أقرب نقطة)، ولهذا آثر الفاتح أن يُجهِّز جيشه البرِّي الذي ستحمله السفن بعد ذلك في أسكودار Üsküdar -وهي تقع على الناحية الأخرى من إسطنبول- وبهذا يتجنَّب حمل الجنود والخيول مسافةً طويلةً داخل المضايق البحريَّة، وبعد تجهيز الجيش تم تحريكه بريًّا إلى الجنوب، عبر مدن بورصا، مانيسا، إزمير، وانتهاءً إلى ميناء مرمريس Marmaris[1]، وهو ليس في بحر مرمرة كما يوحي اسمه؛ إنَّما في أقصى جنوب غرب الأناضول على بعد مائتي كيلو متر غرب مدينة أنطاليا Antalya المشهورة، والسرُّ في اختيار هذا الميناء هو أنَّه أقرب الموانئ العسكريَّة من جزيرة رودس، وبالتالي تصير حركة الجيوش في البحر أقل، وهذا يُوفِّر جهدًا ومالًا، بالإضافة إلى أنَّه أكثر أمانًا، فضلًا عن توفير عامل المفاجأة؛ لأنَّ الحركة داخل أرض الأناضول ستكون أبعد عن عيون فرسان القديس يوحنا.
ذكر فريلي، وكذلك المصادر التركية، أنَّ عدد الجيش العثماني في هذه الحملة كان سبعين ألف مقاتل[2][3]، كما أشار فريلي إلى أنَّ عدد السفن العسكريَّة المستخدمة في الحرب كان أكثر من مائة سفينة[4]، وأكَّد بابينجر أنَّ مجموع السفن هو مائةٌ وستون سفينةً[5]، وبمقارنة هذا الرقم الأخير بحملاتٍ عسكريَّةٍ أخرى وجدتُ أنَّها تحمل في المعتاد حوالي سبعين ألف مقاتلٍ كما ذكر فريلي.
وإنْ كان القياس الدقيق لا يتحقَّق إلَّا بعد معرفة حجم كلِّ سفينة؛ لأنَّ السفن تتفاوت جدًّا في طاقتها الاستيعابيَّة للجنود، وهذا ما يدعوني إلى افتراض أنَّ العدد كان أقلَّ من هذا بكثير؛ لأنَّنا سنرى في حصارٍ قادمٍ لرودس (عام 1480م) أنَّ القوَّة العسكريَّة العثمانيَّة وصلت إلى سبعين ألف مقاتل، مع علمنا أنَّ إعداد العثمانيِّين فيه كان أكبر بكثيرٍ من الغزو الذي نحن بصدد تحليله. هذا يجعل الرقم المحتمل في حصارنا الشتوي هذا يدور بين عشرين ألف مقاتلٍ وثلاثين ألفًا على أكثر تقدير.
اختار السلطان الفاتح لقيادة هذا الأسطول المهم مسيح باشا Mesih Pasha[6][7]، وهو ابن أخي آخر الأباطرة البيزنطيِّين قُسطنطين الحادي عشر[8]، وقد تربَّى في مدارس الدوشرمة العثمانيَّة، واعتنق الإسلام، وصار في عام 1470م حاكمًا لسنجق جاليبولي Gallipoli، وكان عندها في السابعة والعشرين من عمره[9]، والآن صار رئيسًا للأسطول العثماني في بحر إيجة، وهو في السادسة والثلاثين من العمر.
تحرَّك الأسطول العثماني في اتِّجاه رودس في يوم 4 ديسمبر 1479م[10].
جزيرة رودس جزيرة صغيرة نسبيًّا (تاسع جزيرة في البحر الأبيض المتوسط من ناحية المساحة)، وطولها من الشمال إلى الجنوب بين أبعد نقطتين يصل إلى حوالي ثمانين كيلو مترًا، بينما يصل عرضها بين أبعد نقطتين إلى حوالي ثمانية وثلاثين كيلو مترًا، ومساحتها حوالي ألف وأربعمائة كيلو متر مربع. أهمُّ مدن هذه الجزيرة هي مدينة رودس، وتقع في الشمال الشرقي للجزيرة، ومع أنَّ الجزيرة تحتوي على اثنتين وأربعين مدينةً وقريةً أخرى فإنَّها جميعًا صغيرة للغاية في الحجم وعدد السكان، ولهذا كان اهتمام فرسان القديس يوحنا بمدينة رودس كبيرًا للغاية، فكانت معظم التحصينات والقلاع والأبنية المهمَّة موجودة في هذه المدينة، ومع ذلك فبقيَّة الجزيرة لا تخلو من حصانةٍ ومنعة، ويُمكن القول بلا جدال: إنَّ مدينة رودس -وكذلك الجزيرة بشكلٍ عامٍّ- كانت من أحصن مدن الدنيا في زمن محمد الفاتح، وتُقدِّر بعضُ المصادر عددَ القلاع في جزيرة رودس بأكثر من ثلاثين قلعة حصينة[11].
لكون المدينة بهذه الحصانة الكبيرة فإنَّ مسيح باشا اختار ألَّا ينزل بقوَّته الصغيرة نسبيًّا أمام حصون المدينة العملاقة، ولكن قرَّر إنزال بعض جنوده في نقطةٍ بعيدةٍ عنها على الساحل الغربي للجزيرة، وتحديدًا عند قرية فاني Fanes؛ حيث كانت توجد قلعةٌ أضعف نسبيًا من قلاع مدينة رودس (غير موجودةٍ الآن)، ومع ذلك فقد وجد مقاومةً عنيفةً من الحامية الرودسيَّة ممَّا اضطرَّه إلى إعادة حمل جنوده مرَّةً أخرى والبحث عن نقطةٍ جديدةٍ للإنزال. لم يجد مسيح باشا منطقةً مناسبةً في جزيرة رودس نفسها فسعى لإجراء إنزالٍ عسكريٍّ في جزيرة تيلوس Tilos، وهي جزيرةٌ صغيرةٌ على بعد خمسين كيلو مترًا غرب رودس، ومع ذلك لم يستطع مسيح باشا الإنزال في هذه الجزيرة أيضًا بعد مقاومة الحامية العسكريَّة بها[12].
أخيرًا، وبعد هاتين المحاولتين غير الناجحتين، قرَّر مسيح باشا الانسحاب عائدًا إلى ميناء مرمريس، ليُبلِغ السلطان الفاتح أنَّ الأمر يحتاج إلى قوَّةٍ أكبر، ولعلَّ هذا يكون في ربيع العام القادم؛ أي ربيع 1480م[13].
كان من الواضح أنَّ هذه الحملة كانت لجسِّ النبض في جزيرة رودس؛ فهي لم تَسْعَ بشكلٍ جدِّيٍّ لفتح الجزيرة؛ إنَّما كانت في مهمةٍ شبه استطلاعيَّة، وكأنَّها كانت تتعرَّف على مداخل الجزيرة ومخارجها، وأماكن قلاعها، ونقاط ضعفها، ونحو ذلك من أمورٍ عسكريَّة، والذي يدعونا إلى هذا الافتراض هو أنَّ المحاولات العسكريَّة لفتح المدينة كانت ضعيفةً للغاية، كما أنَّ الحملة لم تستطع أن تحتلَّ جزيرة تيلوس الصغيرة، ويُضاف إلى ذلك أنَّنا لم نرَ أيَّ ردِّ فعلٍ سلبيٍّ من الفاتح عن فشل الحملة في فتح رودس، وكأنَّه يعلم أنَّ الهدف من إرسالها لم يكن الفتح بل كان الاستطلاع.
عمومًا حصل الجيش العثماني على معلوماتٍ مهمَّةٍ في هذه الحملة، لكنَّه في الوقت نفسه نبَّه فرسان القديس يوحنا إلى النيَّة الصريحة عند السلطان الفاتح لاحتلال الجزيرة، ومِنْ ثَمَّ أخذ أمير رودس الفترة القادمة كلها -من هذا الشتاء وإلى ربيع 1480م- في إعداد الجزيرة للحصار، وزيادة مناعتها وحصانتها.
هكذا انتهى عام 1479م بهذه الحملة على رودس، وكان أمام الفاتح ثلاثة أو أربعة أشهر يُعيد فيها ترتيب أوراقه، ووضع خططه، وتحديد أهدافه، وتقويم قوَّة جيشه وأسطوله؛ وذلك استعدادًا لحملاتٍ جهاديَّةٍ كبرى في صيف 1480م..
لقد كان عامًا مزدحمًا حقًّا! اختلطت فيه الأفراح بالأتراح، والانتصارات بالهزائم، والنجاحات بغيرها، وبينما كانت بداية العام تشهد اتفاقيَّة الدولة العثمانيَّة مع البندقية -التي حقَّقت فيها أعظم النتائج- شَهِدَ العام نفسه هزيمة حقل الخبز المـُرَّة، وفي الوقت الذي نجح فيه العثمانيُّون في فتح الجزر الأيونيَّة فشلوا في تحقيق أيِّ إنزالٍ في جزيرة رودس، لكن في العموم كان نجاح الدولة العثمانيَّة في هذا العام أكبر كثيرًا من فشلها، وكان معدَّل ارتفاع هيبتها في أوروبا في تواصلٍ وازدياد.
لم تشهد الشهور الأولى من عام 1480م حدثًا مهمًّا في قصَّة الدولة العثمانيَّة اللهمَّ إلَّا غزو استيفين الثالث أمير البغدان لإقليم الإفلاق لتغيير القيادة فيه لصالحه، وقد استطاع في عمليَّته هذه أن يعزل باساراب الأصغر مؤقَّتًا ويضع مكانه زعيمًا اسمه ميرسيا Mircea، الذي تذكر بعض المصادر أنَّه ابن استيفين الثالث نفسه[14]، ومع ذلك فلم يكن هذا التغيير إلَّا لفترةٍ محدودة؛ حيث استطاع باساراب الأصغر بمساعدة فرقةٍ عثمانيَّةٍ من استعادة الحكم في الإفلاق سريعًا[15].
***
بعد الأحداث المتضاربة في عام 1479م صارت الرؤية واضحة عند السلطان الفاتح في عام 1480م. إنَّ الهدف الحالِّي هو العمل المزدوج ضدَّ القوَّتين الكاثوليكيَّتين الكبيرتين اللتين تواجهانه: قوَّة فرسان القديس يوحنا في رودس، وقوَّة الملك فرديناند الأول في مملكة نابولي، وذلك تمهيدًا لغزو روما، وإسقاط أكبر مدينةٍ نصرانيَّة في العالم بعد أن أسقط قبل ذلك مدينتهم الأعظم: القسطنطينية.
وحيث إنَّ التخطيط العسكري الأسلم يقتضي فتح رودس، أو على الأقل حصارها، قبل التوجُّه إلى إيطاليا، فإنَّ التوجُّه كان لرودس أوَّلًا.
ويُفَضَّل قبل التعرُّف على تحرُّكات الأسطول العثماني وعمليَّاته في رودس أن نأخذ فكرةً أوَّلًا عن فرسان القديس يوحنا، وكذلك عن وضعهم العسكري في الجزيرة الآن، وعن جهودهم في الاستعداد للغزو المرتقب للعثمانيِّين.
فرسان القديس يوحنا أو فرسان الإسبتارية، هم تنظيم ديني عسكري نشأ أوَّلًا في القدس كجماعة تهتمُّ برعاية مستشفى لعلاج الحجَّاج النصارى (ولهذا أطلق على التنظيم فرسان المستشفى، أو فرسان الإسبتارية، والإسبتاريَّة هي المستشفى بالإيطاليَّة The Knights Hospitaller، ثم تطوَّر التنظيم بعد الغزو الصليبي للقدس عام 1099م إلى تنظيم ديني عسكري يهدف إلى الدفاع عن المسيحية بشكلٍ عامٍّ، وضدَّ المسلمين بشكلٍ خاص، وكانت المستشفى التي يخدمونها قبل تحوُّلهم إلى العمل العسكري قد بُنِيَت مكان كنيسة القديس يوحنا في القدس، ومنها أخذوا اسمهم فرسان القديس يوحنا St. John Knights[16][17][18].
ومنذ أن اعترف البابا باسكال الثاني Pope Paschal II عام 1113م بهذا التنظيم[19] وهو يَلْقَى الدعم الكامل من الكنيسة في روما، وتَعُدُّه الڤاتيكان أقدر التنظيمات على مواجهة المسلمين، ومِنْ ثَمَّ ينبغي توجيه الدَّعم الكامل له، ليس من الكنيسة فقط؛ ولكن من كلِّ الأمراء والنبلاء التابعين للكنيسة[20].
بعد تحرير المماليك لكامل الأراضي الفلسطينيَّة من الصليبيين، وخاصَّةً عكا عام 1291م، نقل فرسان القديس يوحنا مركزهم الرئيس من عكا إلى قبرص بشكلٍ مؤقت، ثم نجحوا في احتلال جزيرة رودس من الدولة البيزنطيَّة، وحوَّلوا إليها مركزهم، وذلك منذ عام 1310م[21].
كانت مدينة رودس في جزيرة رودس من المدن الحصينة للغاية، حتى قبل نزول فرسان القديس يوحنا فيها، فحصانتها تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، منذ العهد الهلينسي Hellenistic era، ثم العهود الرومانيَّة والبيزنطيَّة، فكلُّ هذه الفترات كانت تُضيف حصونًا وقلاعًا وأسوارًا للمدينة؛ وذلك بحكم أهميَّتها كبوابةٍ لبحر إيجة، ولوجودها في مركزٍ متوسِّطٍ بين الشرق والغرب، ممَّا يُضاعف من قيمتها في التجارة البحريَّة[22].
هكذا استقرَّ فرسان القديس يوحنا في رودس، وهذا أعطاهم استقلاليَّةً واضحةً تختلف عن وضعهم عندما كانوا تابعين لإمارة بيت المقدس، وصاروا كيانًا معتبرًا في أوروبا له ارتباطٌ مباشرٌ بالبابا، وله آليَّات إدارةٍ منفصلةٍ عن أيِّ دولةٍ من دول أوروبا، ولذا يُفضَّل أن نأخذ فكرةً سريعةً عن شكل هذا الكيان، وطريقة إدارته، وعندها يُمكن أن نُكوِّن رؤيةً صحيحةً عن أسلوب التعامل معه.
إنَّ هذا التنظيم ينطلق من رؤيةٍ دينيَّةٍ واضحة تهدف إلى الدفاع عن النصرانية، والهجوم على أيِّ قوَّةٍ تُهدِّد الكنيسة الكاثوليكيَّة. نعم قد تتغيَّر الأهداف أثناء حياتهم في موقفٍ أو مواقف، وقد يُحاربون بعض القوى التي تنتمي إلى دينهم وعقيدتهم، كما حدث منهم في صراعهم مع البندقية في بعض فترات حياتهم، لكنَّهم في النهاية يُحاربون من منطلقٍ دينيٍّ بحت، وهذا جعلهم قوَّةً معاديةً للأمة الإسلاميَّة في كلِّ مراحل وجودهم؛ فهم أعداء الدولة الزنكيَّة، وأعداء الدولة الأيوبيَّة، وأعداء المماليك، وأعداء السلاجقة، والآن أعداء العثمانيِّين.
لا يحقُّ لأحدٍ أن يلتحق بهذا التنظيم إلَّا إذا كان من إحدى خمس دولٍ أوروبيَّةٍ محدَّدة؛ وهي فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وإنجلترا، وألمانيا، وينقسم أعضاء فرسان القديس يوحنا إلى ثمانية أقسام، أو ثمانية ألسنة Tongues، أو ثماني لغات Langues، أو ثماني أمم Nations على النحو التالي: ثلاثة ألسنة لفرنسا: اللسان الأوَّل هو بروڤانس Provence، وهي مقاطعةٌ فرنسيَّةٌ في جنوب الشرق منها، واللسان الثاني هو أوڤيرن Auvergne، وهي مقاطعة في وسط فرنسا، أمَّا اللسان الثالث فهو «فرنسا»، ويتبعه كلُّ الفرنسيِّين بخلاف أهل بروڤانس وأوڤيرن، أمَّا اللسان الرابع فهو اللسان الإيطالي، والخامس يتبعه قسمٌ من إسبانيا، وهو لسان أراجون وكاتالونيا (النصف الشرقي من إسبانيا)، والسادس هم فرسان إنجلترا، ويدخل معهم فرسان أسكتلندا، وأيرلندا، أمَّا اللسان السابع فهو لسان ألمانيا، وأخيرًا اللسان الثامن هو لسان النصف الغربي من إسبانيا، ويضمُّ فرسان قشتالة Castile، والبرتغال[23].
يؤخذ العهد على أيِّ عضوٍ جديدٍ في هذا التنظيم بأن يُطيع رئيس التنظيم طاعةً مطلقة[24]، ويُعْرَف رئيس التنظيم بالسيِّد الأكبر Grand Master، وهو يُوجد في المركز الرئيس في رودس، ومع ذلك فهو له الكلمة العليا على كلِّ أعضاء فرسان القديس يوحنا في كلِّ أنحاء العالم؛ سواء في الدول الأوروبيَّة الخمسة التي يأتي منها الفرسان، أم في الممتلكات التابعة للفرسان في أيِّ بقعةٍ في العالم، وهو يُختار بالانتخاب من أعضاء التنظيم[25].
ينقسم أعضاء فرسان القديس يوحنا إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى هي طائفة الفرسان Knights، وهؤلاء يُشترط فيهم أمران: الأوَّل هو الميلاد النبيل، بمعنى أن يكون والده من نبلاء إحدى الدول الخمسة التي يأتي منها الفرسان، والثاني هو الميلاد الشرعي، بمعنى أنَّه يجب أن يكون نتاج زواجٍ شرعي، ولا يصلح أن يكون ابنًا غير شرعيٍّ ولو كان لأحد النبلاء، وهذه الطائفة هي أعلى طوائف فرسان القديس يوحنا، ويكون منها السيِّد الأكبر، وكذلك رؤساء الأقسام المختلفة في كلِّ بلاد العالم. أمَّا الطائفة الثانية فهي طائفة القساوسة Chaplains، ودورها دينيٌّ بحت. أمَّا الطائفة الثالثة فهي عادة أكبر الطوائف عددًا، وهي طائفة «الأخوة الذين يُنفِّذون المهمَّات» Brothers servant-at-arms، وهي تخدم سواء في مجال الحرب والقتال، أم في مجال الرعاية الطبِّيَّة والمستشفيات[26].
لا يُعرف على وجه التحديد عدد فرسان القديس يوحنا، ولكنَّهم في المعتاد قليلو العدد جدًّا، كما سنرى عند توصيف عددهم في حصار رودس، ولكنَّهم يعتمدون على استقدام المرتزقة، وكانوا يتلقَّون الدعم المادِّي والبشري من بعض ملوك أوروبا، وكذلك من البابا، والواقع أنَّ الأموال اللازمة للحفاظ على تنظيم فرسان القديس يوحنا كثيرة جدًّا، ويُعوِّضها أنَّ لهم مصادر تمويل متعدِّدة؛ فلهم ممتلكات وقفيَّة واسعة في أوروبا، ولهم ممتلكاتٌ في الشرق، وتأتيهم اشتراكاتٌ من الأقسام التابعة لهم في أوروبا، وأيضًا يفرضون الضرائب على السفن المارَّة بموانئهم المختلفة، بالإضافة إلى عمليَّات القرصنة على السفن المارَّة في البحر الأبيض المتوسط[27]، وللدلالة على قلَّة عددهم نُشير إلى أنَّ عدد الفرسان (أي الطائفة الأولى) في الفترة بين 1473م و1478م في رودس كانوا مائتين وثمانية وخمسين فارسًا فقط[28]! ومع ذلك فهم يُسيطرون على رودس منذ عام 1310م؛ أي أكثر من مائةٍ وستِّين عامًا!
هذا هو حال فرسان القديس يوحنا في السبعينيَّات من القرن الخامس عشر، ومع ذلك فإنَّ ولاية بيير دي أوبسون Pierre d'Aubusson عام 1476م كانت تُمثِّل نقلةً نوعيَّةً في تاريخ فرسان رودس؛ فقد كان قائدًا عسكريًّا متمرِّسًا للغاية، وصاحب علاقات أوروبِّيَّة واسعة، وله إمكانات إداريَّة باهرة، وفوق كلِّ ذلك فقد كان يتوقَّع هجومًا عثمانيًّا من أوَّل أيَّام ولايته؛ أي عام 1476م، ولذلك فهو يُعِدُّ العُدَّة لهذا الحصار مبكرًا[29]، وكانت له في الإعداد وسائلٌ متعدِّدةٌ وطرقٌ مختلفة، وفي أكثر من مجالٍ.
بعد أن تعرَّفنا على نبذةٍ عن فرسان القديس يوحنا يُفضَّل أن نعرف نبذةً كذلك عن تحصينات مدينة رودس (صورة رقم 10)؛ لنستطيع فهم الجهد الذي بذله العثمانيُّون في الحصار، وكذلك الجهد الذي بذله فرسان القديس يوحنا في الدفاع عن المدينة.
جاء وصف التحصينات في مصادر كثيرة، وبمعلوماتٍ وفيرةٍ للغاية؛ وذلك لأنَّ معظم التحصينات ما زالت موجودةً إلى الآن، وهي مزاراتٌ معروفةٌ في جزيرة رودس اليونانيَّة، وسوف أذكر هنا ملخَّصًا لهذه التحصينات، وقد استقيتها من عدَّة مصادرٍ مجتمعة[30][31][32].
اختار اليونانيُّون مكان مدينة رودس بعنايةٍ فائقةٍ في شمال شرق الجزيرة؛ حيث إنَّ هذا المكان الذي أُنشأت فيه المدينة يُعَدُّ مثالًا ممتازًا للمرافئ الطبيعيَّة Natural harbours، والمرفأ الطبيعي هو مكانٌ على شاطئ البحر تكون فيه بروزات طبيعيَّة داخل البحر تجعل الأمواج في المنطقة منخفضة، وتُمثِّل حمايةً طبيعيَّةً ضدَّ الرياح العاتية التي قد تعوق حركة السفن ورسوَّها أمام الشاطئ، ولهذا تُعَدُّ مثل هذه الأماكن ملجأً مهمًّا للسفن المارَّة بالمنطقة، وخاصَّةً أثناء فترات العواصف والأمواج العالية، وخاصَّةً إذا ما كانت المدينة التي على المرفأ الطبيعي تُقدِّم خدمات للسفن من نحو التموين الغذائي، ومصادر الطاقة، وبضاعة للشراء، وغير ذلك. بنى اليونانيُّون مدينة رودس على شكل هلالٍ يُحيط بهذا المرفأ الطبيعي، وفتحة الهلال تواجه الناحية الشرقيَّة إلى الشمال قليلًا، وقد أحاط اليونانيُّون المدينة كلَّها بسورٍ عظيمٍ يحميها من الأعداء على مدار السنين.
زاد الرومانيُّون، ثم البيزنطيون، في تحصينات الأسوار المحيطة بالمدينة، واهتمُّوا بإعداد المرفأ ليكون صالحًا لاستقبال السفن التجاريَّة، وتمكَّن فرسان القديس يوحنا من احتلال الجزيرة، وبالتالي المرفأ المهم، في عام 1310م كما مرَّ بنا. لم يضطر فرسان القديس يوحنا إلى زيادة التحصينات في خلال القرن الرابع عشر كلِّه لهدوء الحالة العسكريَّة في هذا التوقيت، ولكنَّهم اضطرُّوا إلى إحداث تغييراتٍ كبيرةٍ بعد ذلك في القرن الخامس عشر عندما بزغت قوَّة الدولة العثمانيَّة في الأناضول وأوروبا، كما كانوا تحت تهديدٍ مباشرٍ من قوَّة المماليك في مصر والشام.
كانت التغييرات التي أحدثها فرسان القديس يوحنا جوهريَّة ومحوريَّة، وتُمثِّل نقلةً نوعيَّةً كبيرة في تاريخ الجزيرة والمرفأ التجاري بها (خريطة رقم 18).
ويُمكن إيجاز ما فعله فرسان القديس يوحنا في النقاط التالية:
أوَّلًا: تحويل المرفأ الطبيعي إلى ميناءين Ports، والميناء يكون صناعيًّا ليُعطي الشاحنات والمسافرين فرصةً أكبر للتعامل مع البضائع الكبرى والأعداد الضخمة للركاب، وقد تمَّ لهم ذلك عن طريق بناء ثلاثة ألسنة حجريَّة ضخمة داخل مياه البحر Moles، اثنان منهما طوليَّان يتَّجهان من الجنوب إلى الشمال هما لسان سان نيكولاس St. Nicholas في الغرب، ولسان الطواحين Windmills في الشرق، وسُمِّي كذلك لوجود ثلاث عشرة طاحونة هواء إلى جواره، ويُعْرَف أيضًا بلسان سان أنجلو St. Anglo، ويُعْرَف كذلك بلسان فرنسا؛ لأنَّ الفرسان الفرنسيِّين كانوا موكَّلين بحماية هذا اللسان. أمَّا اللسان الثالث فكان لسانًا عرضيًّا يتَّجه من الغرب إلى الشرق، واسمه لسان نايلاك Naillac، وقد سُمِّي بذلك نسبةً إلى السيد الأكبر الذي بناه، وهو فليبرت دي نايلاك Philibert de Naillac. قَسَّمَت هذه الألسنة الحجريَّة الضخمة المرفأ الطبيعي إلى ميناءين كبيرين: الأوَّل، وهو الأصغر، ويقع في الشمال الغربي، وهو ميناء ماندراكي Mandraki، وقد جعله فرسان القديس يوحنا خاصًّا بسفنهم العسكريَّة والتجاريَّة. والثاني، وهو الأكبر، في الجنوب الشرقي، وهو الميناء التجاري Commercial، وكان خاصًّا بالسفن التجاريَّة العالمية التي تمرُّ بالجزيرة.
ثانيًا: بنى فرسان القديس يوحنا في نهاية كلِّ لسانٍ حجريٍّ برجًا عملاقًا يهدف إلى حماية اللسان، وكذلك حماية الجزيرة كلِّها، فهذه ثلاثة أبراجٍ عظيمة: برج سان نيكولاس، وبرج الطواحين، وبرج نايلاك. ويكفي للدلالة على قدر هذه الأبراج أن نعرف أنَّ برج نايلاك على سبيل المثال كان ارتفاعه يزيد عن ستة وأربعين مترًا! أي في ارتفاع مبنى من خمسة عشر طابقًا في زماننا، وثبَّت فرسان القديس يوحنا في كلِّ برجٍ عددًا من المدافع الناريَّة القويَّة القادرة على اصطياد أيِّ سفينةٍ تقترب من الميناء.
ثالثًا: وضع فرسان القديس يوحنا سلسلةً حديديَّةً ضخمةً في المياه معلَّقةً بين برجي الطواحين ونايلاك لغلق الميناء التجاري، وهي على غرار سلسلة القرن الذهبي في القسطنطينية، ولا تستطيع السفن دخول الميناء إلَّا بعد إرخاء هذه السلسلة الكبيرة، ووضعوا سلسلةً أخرى بين برجي الطواحين وسان نيكولاس، وهي تُمثِّل حمايةً مزدوجةً للميناء نفسه؛ أي الميناء التجاري، أمَّا ميناء ماندراكي فكان يُحْمَى ببرج سان نيكولاس دون سلسلة.
رابعًا: لم تكن الأبراج الثلاثة التي بناها فرسان القديس يوحنا على الألسنة الحجريَّة الثلاثة هي الأبراج الوحيدة التي بَنَوها في تحصينات رودس، بل بنوا غيرها على الأسوار: ثلاثة معاقل وأربعة أبراج، والمعقل أو الباستيون Bastion، هو بروزٌ ضخمٌ من السور، وكأنَّه قلعةٌ مستقلَّة، وكلمة الباستيون مشتقَّة من الكلمة الفرنسيَّة القديمة Bastille، ومنها قلعة الباستيل الفرنسيَّة المشهورة، وقد بنى فرسان القديس يوحنا ثلاثة معاقل كبرى هي معقل سان بول St. Paul في الناحية الشماليَّة من السور، ومعقل سان چورچ St.George في الناحية الغربيَّة، ومعقل كوسكينو Koskinou في الناحية الجنوبيَّة، أمَّا الأبراج فكانت أربعة غير أبراج الألسنة، وهي برج سان بيتر St.Peter في الشمال، وبرجي أراجون Aragon، وسانت ماري St.Mary في الغرب، وبرج إيطاليا Italy في الجنوب، فيكون مجموع المعاقل والأبراج عشرةً كاملة، وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذه الأبراج والمعاقل كلَّها كانت مزوَّدةً بالمدافع الضخمة التي تقذف البارود والحجارة، كما أنَّها كانت مزوَّدةً بآلاتٍ لقذف الزيت المغلي، وكذلك النار الإغريقيَّة، وهذه النار الأخيرة هي نوعٌ عجيبٌ من القذائف يتميَّز بالاستمرار في الاشتعال فوق سطح الماء، وما زال هناك خلافٌ بين العلماء حتى زماننا هذا في الطبيعة الكيميائيَّة لهذا المركَّب، وكانت تركيبته تُعَدُّ من الأسرار العسكريَّة الكبرى لدى البيزنطيِّين، ثم فرسان القديس يوحنا، ومع أنَّ العرب والعثمانيِّين قد استخدموا أنواعًا مشابهةً من القذائف فإنَّها غالب الظنِّ لم تكن من التركيبة الكيميائيَّة نفسها.
خامسًا: جعل فرسان القديس يوحنا في السور الطويل المحيط بالمدينة (طوله حوالي أربعة كيلو مترات) أحد عشر بوَّابة حصينة موزَّعة على كافَّة أطرافه، وغالبًا ما توجد قنطرةٌ طوليَّةٌ فوق حفر عميقة تقود إلى البوابة، وقد يكون هذا التصميم هادفًا إلى جعل الطريق المؤدِّي إلى البوابة ضيِّقًا، وبالتالي يعوق حركة الجيوش الغازية، ولا يسمح إلَّا بمرور عددٍ قليلٍ ممَّا يُسهِّل عمليَّة الدِّفاع عن البوابة.
سادسًا: لم يكن بناء فرسان القديس يوحنا للسور بناءً تقليديًّا؛ فهم لم يضعوا الأحجار فوق بعضها البعض بالشكل المعروف في البناء، إنَّما استخدموا تقنيةً متقدِّمةً آنذاك تهدف إلى بناء قلب للسور مختلف عن الخارج، وهذا القلب مكوَّنٌ من أحجارٍ تشابكت مع بعضها البعض بطريقةٍ خشنةٍ غير تقليديَّة (Rubble masonry)، وأُلصقت إلى بعضها البعض بنوعٍ خاصٍّ من المِلاط يُشبه الأسمنت، وهذه التركيبة تُعطيها مقاومةً واضحةً للقذائف الناريَّة أو الحجريَّة، ثم يُغطَّى هذا البناء الخشن ببناء آخر ناعم ومنحدر؛ وذلك لمنع جنود الأعداء من تسلُّق السور، فصار السور هكذا مكوَّنًا من قلبٍ خشنٍ مقاومٍ للمدافع، وإطارٍ خارجيٍّ أملس مقاوم للتسلُّق!
سابعًا: أحاط فرسان القديس يوحنا سور المدينة من الخارج بحُفَرٍ ضخمةٍ يتراوح قطر الواحدة منها من ثلاثين مترًا إلى أربعين، ويتراوح عمقها من خمسة عشر مترًا إلى عشرين، وهي متلاصقةٌ وكثيرةٌ ممَّا يُمثِّل إعاقةً كبيرةً لأيِّ جيشٍ غازٍ؛ حيث إنَّها مثل الخندق العميق للغاية الذي يُحيط بالسور من كلِّ الاتجاهات.
هذه هي التحصينات العظيمة التي جعلت بعض المؤرِّخين يَعُدُّ هذه المدينة أحصن مدينة في العالم آنذاك، وإن كانت غالب الأمر أقلَّ حصانةً من القسطنطينية، لكنَّها في العموم كانت متميِّزةً للغاية، وخاصَّةً أنَّها كانت على جزيرةٍ في وسط البحر، وليست مدينةً يُمكن الوصول إليها بالجيوش البرِّيَّة كما هو الحال في القسطنطينية أو غيرها، وهذا يُضيف إليها حصانةً خاصَّة؛ حيث لا يُمكن نقل أعدادٍ ضخمةٍ جدًّا من الجنود، كما يُخشى من قطع طريق العودة على الجيوش المحاصِرة لها لكونها غير متَّصلة بالبرِّ مع مراكزها، فضلًا عن عدم إمكانيَّة نقل المدافع الضخمة جدًّا (مثل التي استُخدمت في حصار القسطنطينية)، وهي مدافع مهمَّة لهدم مثل هذه الأسوار العملاقة.
داخل هذه الأسوار المنيعة تنقسم المدينة إلى قسمين رئيسين: القسم الأول، وهو الأصغر، يُعرف بالقلعة Kastello، ويقع في الشمال الغربي من المدينة، ويضمُّ هذا القسم ثلاثة معالم مهمَّة للغاية؛ أمَّا الأوَّل فهو القصر الرئاسي، وهو من أحصن المباني في المدينة، وله أسواره الخاصَّة، ومزوَّد بمدافع ضخمة للدفاع عنه، والمعلم الثاني هو المستشفى، أمَّا المعلم الثالث فهو الأوبرچات Auberges؛ أي المباني الخاصَّة بسكن الفرسان، وهي قلاعٌ حصينةٌ متتاليةٌ تقع داخل السور مباشرةً وموزَّعة على كامل محيط السور من الداخل، وكان السور مقسَّمًا من داخله إلى ثمانية أقسامٍ بعدد المناطق أو الألسنة التي تُكوِّن الفرسان؛ فهناك قسم إسباني، وقسم إيطالي، وقسم فرنسي، وهكذا، وكانت كلُّ مجموعةٍ تحمي السور الذي تسكن إلى جواره ممَّا يُعطيهم تنافسًا شرفيًّا في قوَّة الدِّفاع عن ناحيتهم.
بهذا التصوُّر لتصميم المدينة نرى أنَّ هذا القسم منها -أي الكاستيلو- هو قسمٌ خاصٌّ بالحكومة والجيش المدافع عن المدينة، أمَّا القسم الآخر من المدينة، وهو القسم الأكبر، فكان يُعرف بالخورا Chora، وهي غالبًا كلمةٌ تعني «البلد»، وفيها عامَّة شعب مدينة رودس، وكانت منقسمة إلى ثلاثة أحياء رئيسة: الحي اليوناني، ويعيش به أهل رودس الأصليُّون، والحي اليهودي، وبه الجالية اليهودية، والحي الأوروبي الغربي، وبه الأوروبيُّون من غير فرسان القديس يوحنا، وتقع هذه الأحياء الثلاثة في وسط المدينة، ويُحيط بها من كلِّ جانبٍ بيوتُ الفرسان المعروفة بالأوبرچات كما وصفنا قبل ذلك.
هذه هي مدينة رودس بحصونها، وأسوارها، وأبراجها، ومعاقلها، ومبانيها، وأحيائها..
إنَّها المدينة التي أضاف كلَّ حاكمٍ لها على مدار قرابة العشرين قرنًا تحصيناتٍ قويَّة، وإضافاتٍ لافتةً للنظر، وللحقِّ فإنَّ فرسان القديس يوحنا قد أضافوا لها الكثير، ومن فرسان القديس يوحنا يتميَّز السيِّد الأكبر الذي يحكمها وقت حصار العثمانيِّين لها، وهو بيير دي أوبسون، فإليه يُنسب بناء خمسين مَعْلَمًا حصينًا من المائة وخمسين معلمًا التي قام بها فرسان القديس يوحنا على مرِّ العصور[33]، وهذا ما دفع المؤرِّخة الأميركيَّة تيريزا ڤان Theresa Vann، بعد دراسةٍ مستفيضةٍ لتاريخ فرسان القديس يوحنا، إلى القول: إنَّه لم يتحلَّ أحدٌ قَبْل بيير دي أوبسون بالطاقة ولا النشاط الذي كان يتَّصف به في تقوية حصون رودس أو زيادة قوَّة مقاومتها[34].
بعد أن أخذنا فكرةً عن فرسان القديس يوحنا من ناحية، وعن حصون مدينة رودس من ناحيةٍ أخرى نتعرَّف الآن على الجهود التي بذلها بيير دي أوبسون للاستعداد لمقاومة الحصار العثماني بعد أن وصلته الأخبار المؤكَّدة بأنَّ العثمانيِّين يعدُّون العدَّة لحصارٍ جديدٍ طويلٍ بعد حملتهم السابقة التي كانت في شهر ديسمبر 1479م. هذه الخطوات التي سنذكرها تعرَّفنا عليها في الأغلب من كتابات نائب رئيس فرسان القديس يوحنا جيوم كاورسين Guillaume Caoursin، وهو أستاذ قانون من أصولٍ فرنسيَّةٍ كان يُدرِّس في جامعة باريس، ثم انتقل للعيش في رودس، وهو ليس من الفرسان الأصليِّين لكون ميلاده غير شرعيٍّ كما صرَّح بذلك المؤرِّخ الإنجليزي الشهير أنتوني لوتريل Anthony Luttrell[35]، وقد نقل المؤرِّخ الإنجليزي الشهير إدوارد چيبون النصَّ الكامل لكتابات جيوم كاورسين في مرجعه الكبير[36]، وهذا هو المصدر الذي يستقي منه معظم المؤرِّخين الوصفَ الكامل لحصار العثمانيِّين لرودس عام 1480م.
ماذا فعل بيير دي أوبسون وفرسان القديس يوحنا في هذه الشهور التي فصلت بين حملة رودس ديسمبر 1479م، والحملة الجديدة التي ستبدأ في مايو1480م؟ يُمكن إيجاز ما فعلوه في هذه النقاط التالية:
أولًا: كان بيير دي أوبسون يعلم أنَّ حياة الجزيرة والفرسان مرتبطةٌ بتوفير كميَّةٍ كبيرةٍ من المال؛ فبه يمكن شراء كميَّاتٍ ضخمةٍ من الأطعمة تكفي للحصار الطويل، وبه يُمكن إصلاح التحصينات وبناء حصونٍ جديدة، وبه يُمكن استقدام مرتزقة من أوروبا للمشاركة في القتال، وبه يُمكن شراء عملاء وجواسيس يكشفون أسرار الجيش العثماني، وبه أيضًا يُمكن شراء الذخيرة والأسلحة، ولذلك قام بيير دي أوبسون بحملة تبرُّعات كبرى في أوروبا، ولم تكن حملته خاصَّة فقط بمراكز الفرسان في البلاد المختلفة؛ إنَّما كان يخاطب فيها البابا وملوك أوروبا، وقد نتج عن حملته أن بدأ البابا في بيع صكوك الغفران لصالح رودس، ووافق ملك إنجلترا إدوارد الرابع Edward IV، وكذلك ملك فرنسا لويس الحادي عشر Louis XI، على السماح لفرسان القديس يوحنا في بلادهم ببيع صكوك الغفران لصالح رودس[37]. وعقد بيير دي أوبسون اجتماعًا لرؤساء الأقسام المختلفة للفرسان في أوروبا وشرح لهم أبعاد الموقف الخطر وصوَّتوا جميعًا لصالح السيِّد الأكبر بيير دي أوبسون بفعل ما يراه مناسبًا للتجهيز العسكري والمالي من أجل تقوية رودس في مواجهة الحصار[38]، وكان بيير دي أوبسون صارمًا جدًّا في تنفيذ ما يُريد من أجل جمع المال اللازم للحصار، فكان لا يتردَّد في إنزال العقاب الشديد بمن يرفض الانصياع لأوامره الماليَّة الخاصَّة بدفع الرسوم المقرَّرة على كلِّ فرعٍ من فروع الفرسان في العالم، ومثال ذلك أنَّه عندما عطَّل مسئول فرع برابنت Brabant في فرنسا -وهو القس كاليو Fra Calliot- جانبًا من الرسوم المقرَّرة عليه، أَمَرَ بيير دي أوبسون المسئولَ الأكبرَ لفرنسا بأن يقوم بحبس كاليو مدى الحياة، وأن يظلَّ ما بقي له من عمرٍ مقيَّدًا في الأغلال، ولا يُطْعَم إلَّا الخبز والماء فقط[39]!
ثانيًا: دعا بيير دي أوبسون الفرسان من أنحاء العالم للقدوم إلى رودس للدِّفاع عنها[40]، واستجاب عددٌ من الفرسان (Knights)، وكذلك استجاب عددٌ من منفِّذي الخدمات
(Servant-at-arms)، فتجاوز العدد النهائي لكلِّ طائفةٍ منهم ثلاثمائة فرد[41]، كما جنَّد عددًا من المرتزقة حتى وصل عدد المقاتلين داخل الحصون سبعة آلاف مقاتل[42]، وهذا رقمٌ كبيرٌ جدًّا بالنسبة إلى تاريخ رودس.
وقبيل الحصار بقليلٍ وصلت إمداداتٌ برفقة أنطوان دي أوبسون Antoine d'Aubusson، وهو ابن أخي بيير دي أوبسون، وهو كونت مقاطعة مونتيل Monteil بوسط فرنسا[43]، وكان يشغل أعلى منصبٍ في قصر الملك الفرنسي[44]، ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل بيير دي أوبسون يُعطيه قيادة الجيش المدافع عن المدينة مع أنَّه ليس من فرسان القديس يوحنا[45].
ثالثًا: استقدم بيير دي أوبسون خبراء أوروبيِّين في الأسلحة لتحديث وسائل الدفاع عن المدينة[46]، وخاصَّةً في نظام البارود والمفرقعات؛ لأنَّ المدينة كانت مصمَّمة قديمًا لمقاومة طرق الحصار التقليديَّة، وبعد استخدام المدافع الجديدة تغيَّرت الطرق العسكريَّة بشكلٍ كبير.
رابعًا: خبَّأ بيير دي أوبسون بعض السفن المحمَّلة بالمدافع والذخائر الناريَّة في موانئ المدينة استعدادًا لقصف السفن العثمانيَّة في حال دخولها الميناء[47].
خامسًا: قوَّى بيير دي أوبسون ثلاث قلاعٍ كبرى في جزيرة رودس خارج مدينة رودس الرئيسة، وهي قلعة فيراكلوس Feraklos، وتقع على بعد حوالي ثلاثين كيلو مترًا جنوب مدينة رودس على الشاطئ الشرقي للجزيرة، وقلعة ليندوس Lindus، وهي على بعد عشرة كيلو مترات من القلعة الأولى، وإلى الجنوب منها على الشاطئ الشرقي أيضًا للجزيرة، وقلعة مونوليثوس Monolithos على الشاطئ الغربي للجزيرة على بعد حوالي خمسين كيلو متر جنوب رودس[48]، وبالنظر إلى الموضع الجغرافي لهذه القلاع الثلاث نجد أنَّها موزَّعة على أطراف الجزيرة بشكلٍ يخدم سكَّان المناطق البعيدة؛ فالقلعة الأولى تخدم أهل الشرق، والثانية تخدم أهل الجنوب، والثالثة تخدم أهل الغرب، وكان السكان يلجئون إلى هذه القلاع أثناء حصار الجيوش للجزيرة، وهي قلاعٌ ضخمةٌ تُوفِّر حياةً كاملةً للمحاصرين إلى حين انتهاء الحصار.
سادسًا: خزَّن بيير دي أوبسون كميَّاتٍ كبيرةً للغاية من الأطعمة، والحبوب، واللحوم المملَّحة، ممَّا يكفي كلَّ المحاصَرين داخل مدينة رودس مدَّة ثلاث سنواتٍ كاملة[49]! وكان قد بنى في الفترة السابقة للحصار خزَّانات كبيرة للأطعمة أتاحت له هذا التخزين بشكلٍ صحيٍّ وسليم[50].
سابعًا: في شهر أبريل، وبعد أن تأكَّد بيير دي أوبسون من اقتراب تحرُّك الأسطول العثماني تجاه الجزيرة أمر السكان جميعًا بأن يحصدوا كلَّ محاصيلهم، وأن يقوموا بجني ثمار الفاكهة الناضجة، ثم يقومون بقطع أشجار الفاكهة كلِّها لمنع العثمانيِّين من الاستفادة منها حين الحصار، ثم أمرهم أن يأتوا جميعًا، مع اصطحاب حيواناتهم، والدخول إلى المدينة الحصينة رودس، أو إلى إحدى القلاع الثلاثة التي قام بتقويتها[51].
ثامنًا: جَمَع بيير دي أوبسون كلَّ النساء والأطفال وكبار السنِّ وغير القادرين على القتال لأيِّ عذر، ووضعهم في برج سان بيتر في شمال المدينة، مع وضع حاميةٍ قويَّةٍ على البرج لحمايتهم[52]، وذلك حتى لا يُمثِّلون إعاقةً للعمليَّات العسكريَّة أثناء الحصار، وفي الوقت نفسه يُوفِّر لهم حمايةً من القذائف المتوقَّعة؛ حيث يوجد برج سان بيتر في أحصن مناطق المدينة كلها.
تاسعًا: هدم بيير دي أوبسون كنيستين خارج الأسوار: الكنيسة الأولى هي كنيسة سان أنتوني St.Anthony في الشمال، والأخرى غير معروفة، وكان غرض الهدم هو عدم السماح للعثمانيِّين باتخاذ هاتين الكنيستين كواقي من قذائف الرودسيِّين، فهكذا لا تتوفَّر حماية للجيش الغازي[53].
عاشرًا: أصدر بيير دي أوبسون أوامره بأنه غير مسموح للسفن بمغادرة الميناء بعد يوم 29 أبريل 1480م[54]، وذلك لتوقُّعه أن يظهر الأسطول العثماني في أيِّ لحظة، فقام بهذا الإجراء حمايةً للسفن الرودسية، وفي الوقت نفسه لكيلا يتقوَّى الأسطول العثماني بما يحصل عليه من السفن التي يتمكَّن من اصطيادها من حول رودس.
هكذا صار فرسان القديس يوحنا جاهزين تمامًا للحصار المتوقَّع، والحقُّ أنَّ هذه الإجراءات الحاسمة والدقيقة التي أخذها بيير دي أوبسون تركت ظلالها الإيجابيَّة على الشعب والجنود المحاصرين، فارتفعت روحهم المعنويَّة بشكلٍ كبير، ويُمكن أن نلحظ هذه المعنويَّات العالية في خطابٍ أرسله القسُّ دي كورتي Fra de Curti إلى أخيه في البندقية ينقل له الحالة التي عليها مدينة رودس قبل الحصار، وكان ممَّا قاله: «المدينة مجهَّزةٌ بشكلٍ جيِّدٍ بالحبوب، والزيوت، والأجبان، واللحم المملَّح، وأغذيةٍ أخرى كثيرة، كما أنَّها مجهَّزةٌ بالأسلحة كذلك، فهناك الكثير من الأسهم والأقواس، وكذلك المدافع الخفيفة والثقيلة، وأيضًا الأوعية المليئة بالزيت المغلي، وبالنار الإغريقيَّة، وكذلك أوعية مليئة بالزفت، بالإضافة إلى ذلك فهناك دوريَّات مراقبة مستمرَّة ليلًا ونهارًا يسير فيها حاملو الأقواس، وحاملو المدافع الخفيفة، رفقة مائة فارس»[55].
هكذا استعدَّ فرسان القديس يوحنا للحصار المرتقب، فكيف كان الحال في الدولة العثمانيَّة؟!
***
كان غزو رودس بالنسبة إلى الدولة العثمانيَّة أمرًا حتمِيًّا؛ فالحرب معلنةٌ بين الطرفين، والوجود القريب لفرسان القديس يوحنا يُمثِّل خطرًا داهمًا على الموانئ العثمانيَّة، وعلى الأساطيل التجاريَّة والعسكريَّة على حدٍّ سواءٍ، كما أنَّ الاستعدادات العسكريَّة الرودسيَّة لم تكن خافيةً على أحد، ولهذا كان الغزو العثماني للجزيرة أمرًا متوقَّعًا من الجميع، ولكن كانت تبقى بعض الأمور التي يحتاجها الفاتح قبل تحديد الموعد النهائي للغزو، ويُمكن إجمال هذه الأمور في ثلاثة محاور كبرى: أمَّا المحور الأوَّل فهو تحييد البندقية؛ لأنَّها تمتلك واقعيًّا أقوى أساطيل البحر الأبيض المتوسط، وأيُّ تغييرٍ في سياساتها تجاه الدولة العثمانيَّة قد يُؤدِّي إلى نتائج وخيمة، والمحور الثاني هو محور المعلومات؛ حيث كان الفاتح يحتاج إلى بعض التفصيلات العسكريَّة المهمَّة لتحقيق النجاح في غزو الجزيرة، والمحور الثالث هو محور الإعداد العسكري للأسطول، ويشمل هذا: القيادة الحربيَّة، والجنود، والسلاح، وغير ذلك من إعدادات..
بالنسبة إلى المحور الأول فإنَّ الفاتح -مع كلِّ العلامات التي تُوضِّح حرص البندقية على استمرار السلام مع الدولة العثمانيَّة- لم يكن مطمئنًّا تمام الاطمئنان لسلوك البندقية في الفترة القادمة؛ وذلك لأنَّ غزو الفاتح لجزيرة رودس المحكومة بقوَّة كاثوليكية كبيرة كقوَّة فرسان القديس يوحنا لن يكون أمرًا عاديًّا في أوروبا، فتعاطف أوروبا الغربيَّة سيكون كبيرًا، وبوادر هذا التعاطف ظهرت في استجابة ملوك إنجلترا وفرنسا لحملة بيع صكوك الغفران لصالح رودس، كما أنَّ البابا سيكستوس الرابع متعاطفٌ بكلِّ طاقته مع فرسان القديس يوحنا، وإزاء هذا الشحن الديني للقضيَّة قد تضطرُّ البندقية إلى الرضوخ للضغط الأوروبي وإنهاء السلام مع العثمانيِّين، ولهذا كان على الفاتح قبل أن يتحرَّك في اتِّجاه رودس أن يستطلع الموقف البندقي بدقَّة.
في 27 فبراير 1480م أرسل الفاتح رسالةً إلى البندقية يطلب منها المساعدة بأسطولها على حرب مملكة نابولي[56]، فاعتذرت البندقية عن المشاركة في الحملة -وهذا متوقَّعٌ بالطبع- كما حدث في المرَّة الأولى التي طلب فيها الفاتح هذا الأمر عام 1479م، وهذا لم يُفاجِئ السلطان؛ إنَّما كان الهدف من الرسالة هو قياس ردِّ الفعل البندقي، وهل ستسعى البندقية للتصعيد ضدَّ الدولة العثمانيَّة بأيِّ صورةٍ من الصور أم أنَّها ستدفع في اتِّجاه السلام مهما كان الأمر؟
الواقع أنَّ ردَّ البندقية على السلطان الفاتح أراحه كثيرًا؛ لأنَّها لم تكتفِ بالرفض «المهذَّب» لطلبه إنَّما تجاوزت ذلك إلى إعطائه المسوِّغ الشرعيِّ والقانونيِّ والتاريخيِّ لغزو نابولي! إذ قال السفير البندقي الجديد في إسطنبول، باتيستا جريتي Battista Gritti، للسلطان الفاتح إنَّ من حقِّه غزو المستعمرات البيزنطيَّة القديمة الموجودة على ساحل إيطاليا الشرقي، وهي مدن برينديزي Brindisi، وتارانتو Taranto، وأوترانتو Otranto؛ لأنَّها من بقايا الدولة البيزنطيَّة التي امتلكها الفاتح، ولأنَّها وإن كانت الآن تتبع مملكة نابولي، إلَّا أنَّ نابولي قد استولت عليها من الدولة البيزنطيَّة، وليست ملكًا تاريخيًّا لها[57]!
كان هذا تشجيعًا واضحًا من البندقية على غزو جنوب إيطاليا، وهذا بالطبع يُوضِّح لنا مدى الكراهية التي كانت بين نصارى الملَّة الواحدة! فالبندقيَّة ونابولي كلاهما كاثوليك، وأصحاب بيئةٍ واحدة، وظروفٍ متشابهة، لكنَّ التنافس على الملك والقوَّة كان سببًا في هذا الموقف العجيب من البندقية، وعمومًا فهي تردُّ على ما فعلته نابولي معها قبل ذلك؛ إذ لم تدعمها مطلقًا في حربها الطويلة مع العثمانيِّين ممَّا أرغم البنادقة على إجراء السلام بهذا الثمن الباهظ الذي رأيناه.
لكن على قدر عدم اكتراث البندقية من غزو الفاتح لمملكة نابولي كان رعبها من أن يُغيِّر السلطان مساره إلى غزو البندقية ذاتها! لقد كان الفاتح بالنسبة إلى أوروبا -كما يقول كينيث سيتون- مخيفًا جدًّا، ولا يُمكن أن يتوقَّع أحدٌ خطواته القادمة[58]، وتقول تيريزا ڤان: «لم يكن العثمانيُّون قادرين على إخفاء تجهيزاتهم العسكريَّة (لكونها ضخمة جدًّا)، ولكنَّهم كانوا قادرين تمامًا على إخفاء وجهتهم الأخيرة»[59]. هذا الرعب من خطوة الفاتح القادمة دفع البندقية إلى أخذ الحيطة والحذر من أن تكون مستعمراتها في الأدرياتيكي هي المحطة المستهدفة من العثمانيِّين، فنجد أنَّ الحكومة البندقية أرسلت في مارس 1480م -أي بعد تَسَلُّمها رسالة الفاتح مباشرة- مبلغ خمسة آلاف دوكا ذهبيَّة إلى قائد الأسطول البندقي في الأدرياتيكي، وهو ڤيتور سورانزو Vettore Soranzo، وذلك لتقوية الاستحكامات العسكريَّة في موانئ البندقية على الأدرياتيكي، وهذه أوَّل مرَّة تُرْسَل فيها زيادةً ماليَّةً منذ معاهدة السلام في يناير 1479م[60].
لم يكن الفاتح متضرِّرًا من هذه الاستعدادات البندقية، بل على العكس، فإنَّه كان واضحًا أنَّ البندقية فهمت أنَّ الخطوة القادمة للفاتح ستكون في اتِّجاه نابولي، وعلى أسوأ الظروف ستكون في اتِّجاهها هي، ولكن لم يُطْرَح في النقاش مع العثمانيِّين أن تكون الوجهة إلى رودس، وهذا طمأن الفاتح إلى عدم استعداد البندقية للتهوُّر بالدفاع عن رودس في حال غزوها.
هذا بالنسبة إلى المحور الأوَّل في حديثنا عن استعداد الفاتح لغزو رودس..
أمَّا المحور الثاني، والخاص بجمع المعلومات، فيُمكن القول: إنَّ الفاتح قد اجتهد في جمع الأخبار عن تحصينات رودس وإعداداتها من خلال مصادر أربعة:
المصدر الأول: أنطونيوس ميليجالاس Antonios Meligalas، وهو من سكان رودس سابقًا، وسليل أحد العائلات اليونانيَّة المرموقة، وكان قد ترك رودس ولجأ إلى الفاتح باحثًا عن وضعٍ أفضل لعائلته مستقبلًا في رودس بعد أن تسقط في يد الفاتح[61].
المصدر الثاني: دِيمتريوس سُفيانوس Dimitrios Sophianos، وهو يونانيٌّ كذلك من أهل جزيرة نيجروبونتي، وكان يعمل لدى الدولة العثمانيَّة، بل أرسلته الدولة سفيرًا إلى رودس في مفاوضات صيف 1479م[62].
المصدر الثالث: ميستر چورچ Meister George، وهو مهندسٌ ألمانيٌّ متخصِّصٌ في الأسلحة، وكان يعمل لدى الدولة العثمانيَّة صانعًا للمدافع، وكانت أوروبا تعرف اهتمام الفاتح بالمخترعات العسكريَّة الحديثة؛ ولهذا لم يكن نادرًا أن يلجأ إلى العثمانيِّين علماء الأسلحة من دول أوروبا المختلفة لتوظيف خبراتهم لصالح الدولة العثمانيَّة في مقابل المال؛ بل كان بعض حكَّام أوروبا يُرسلون بعضًا من علمائهم إلى الفاتح تقرُّبًا إليه، أو تجنُّبًا لعدائه[63]، وكان هذا المهندس يعيش في رودس قبل أن ينتقل بأسرته إلى إسطنبول ليستقرَّ فيها[64]، وقد رسم مخطَّطًا كاملًا لمدينة رودس من واقع معرفته القديمة بها، التي مرَّ عليها حوالي عشرون سنة[65].
المصدر الرابع: مسيح باشا قائد الأسطول العثماني في بحر إيجة، وقائد الحملة العثمانيَّة الأخيرة على رودس في ديسمبر 1479م، وقد عيَّنه الفاتح قائدًا للحملة المرتقبة وذلك بحكم خبرته في الحملة السابقة[66]، ولا شَكَّ أنَّه أضاف معلومات كثيرة عن الجزيرة وطبيعتها، وتحصيناتها، وقوَّة الحامية بها، فكان هذا مصدرًا مهمًّا من مصادر السلطان الفاتح لجمع المعلومات.
هذه هي المصادر الرئيسة للمعلومات في هذه الحملة، والواقع أنَّها لم تكن كافية! وسبب ذلك أنَّ المعلومات التي حصل عليها العثمانيُّون من المصادر الثلاثة الأولى كانت معلومات قديمة لم تُحدَّث بشكلٍ يتناسب مع الحملة الكبيرة التي ينوي الفاتح أن يخرجها لجزيرة رودس؛ فمعلومات المهندس الألماني ميستر مرَّ عليها عشرون عامًا، ومعلومات أنطونيوس ميليجالاس قديمة كذلك، وهي ليست متخصِّصة تمامًا، أمَّا بالنسبة إلى معلومات دِيمتريوس فلا شَكَّ أنَّها كانت سطحيَّة لأنَّه لم يعرف هذه المعلومات إلَّا من خلال سفارته إلى رودس عام 1479م، وكانت سفارةً سريعة، ولم يكن متاحًا له أن يتجوَّل في المدينة ليعرف حصونها وخباياها، ولهذا فإنَّ المعلومات التي جمعها الفاتح خَلَت من بعض الأمور التي قد تُمثِّل إعاقةً حقيقيَّةً لعمليَّة الفتح، ومن هذه الأمور على سبيل المثال أنَّ المخطط الذي رسمه المهندس الألماني ميستر وأقرَّه اليونانيَّان الآخران، لم يكن به برج سان نيكولاس، ولم يكن به برج سان بيتر، كما لم يعرف هؤلاء بالتوسُّعات التي حدثت في التحصينات خلف الأسوار، فضلًا عن غياب أيِّ معلوماتٍ بخصوص الحُفَر الضخمة الموجودة خارج الأسوار[67].
إنَّ هذا النقص في المعلومات كان أمرًا خطرًا، خاصَّةً إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ جانبًا كبيرًا من تحصينات رودس قام به السيد الأكبر الأخير بيير دي أوبسون، الذي تولَّى رئاسة الجزيرة عام 1476م، فمعنى هذا أنَّ أيَّ معلوماتٍ أقدم من هذا التاريخ ستكون غير مفيدةٍ تمامًا، بل قد تكون مضلِّلة.
هذا بالنسبة إلى المعلومات المستقاة من المصادر الثلاثة الأولى، أمَّا معلومات مسيح باشا فإنَّها، وإن كانت حديثة وواقعيَّة، إلَّا أنَّها قليلةٌ للغاية؛ لأنَّ مسيح باشا حاول إنزال قوَّاته عند قلعة فاني في غرب الجزيرة، ولم ينجح في هذا الإنزال، وبالتالي لم يدرس لا من قريب ولا من بعيد أيَّ تفصيلاتٍ خاصَّةٍ بتحصينات رودس المدينة، كما لم يعرف شيئًا عن القلاع الثلاثة الكبرى التي قوَّاها بيير دي أوبسون، وبالتالي ظلَّت نقاط القوَّة عند فرسان القديس يوحنا مجهولةً للعثمانيِّين إلى حدٍّ كبير، وهذه من السلبيَّات الكبرى في الحملة المرتقبة.
أمَّا المحور الثالث والأخير الذي اهتمَّ به السلطان الفاتح فهو إعداد الأسطول والجيش المقاتل، ولم تذكر المصادر التركيَّة رقمًا محدَّدًا لعدد الجيش بالكامل، لكن ذكر المؤرِّخ التركي حاجي خليفة أنَّ الجيش كان به أربعة آلاف من القوَّات البحريَّة[68]، ونقل سيتون في كتابه عن الحروب الصليبيَّة أنَّ المؤرِّخ التركي خواجه محمد سعد الدين ذكر في كتاب «تاج التواريخ» أنَّ ثلاثة آلاف من الإنكشاريَّة شاركوا إلى جوار الأربعة آلاف جندي بحري، وأنَّ هناك عددًا غير معلوم من الجنود البرِّيَّة شاركت في الحملة[69]، ولكن في خطاب بيير دي أوبسون إلى ملك نابولي في 28 مايو 1480م يُخبره بحصار العثمانيِّين له ذكر أنَّ عدد الجيش العثماني هو سبعون ألف جندي، وأنَّهم قد جاءوا بأسطولٍ يبلغ مائةً وستِّين سفينة[70]، وفي تقديراتٍ أخرى أنَّ عدد السفن كان يتراوح بين ستٍّ وثمانين وبين مائة سفينة[71].
ولم تكن قوَّة الجيش العثماني في عدد أفراده أو سفنه فقط؛ إنَّما كانت كذلك في نوعيَّة السلاح الذي كان معه، فقد كان الجيش مزوَّدًا إلى جانب الأسلحة التقليديَّة والخفيفة بمدفعيَّةٍ ثقيلةٍ قويَّة، وكان منها ستة عشر مدفعًا كبيرًا يبلغ طولُ كلِّ واحدٍ منها أكثر من خمسة أمتار، وقطره من ستِّين سنتيمترًا إلى خمسة وسبعين[72]، بل كان منها ثلاثةٌ عملاقة لم يرَ أحدٌ من فرسان القديس يوحنا مثلها قبل ذلك، وذكر بيير دي أوبسون أنَّها قادرةٌ على رمي الحجارة بقطرٍ يزيد على مترين، وقد أطلق عليها بيير دي أوبسون لفظ «بازيليسك Basilisk»، وهو وصفٌ لحيوانٍ أسطوريٍّ ضخم[73]، وقدَّر سيتون ثِقَل الأحجار التي يُمكن أن ترميها مثل هذه المدافع بـألف وأربعمائة باوند (ستمائة وثلاثين كيلو جرامًا)[74]، وهو رقمٌ مهولٌ للغاية.
بالإضافة إلى المدافع الكبيرة كان الجيش العثماني يُفاجئ أعداءه في كلِّ معركةٍ بنوعيَّاتٍ جديدةٍ من القذائف، وكان منها في هذه الحملة قنابل خاصَّة مصنوعة من الصلصال على شكل بيضةٍ كبيرة، ومملوءة بخليطٍ حارقٍ من الزفت، وخشب الصنوبر، والفحم، مع خيوط الكتَّان، وتُرمى بواسطة أسلحة على شكل الملعقة، وتُحدث حريقًا كبيرًا لا يُمكن إطفاؤه بالماء؛ إنَّما يُطفأ فقط بالخلِّ أو الصمغ[75]!
هكذا صار الجيش العثماني جاهزًا للحملة الكبيرة، ومِنْ ثَمَّ جاء القرار السلطاني ببدء الرحلة المرتقبة![76].
[1] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 382.
[2] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 154.
[3] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/173.
[4] Freely, 2009, p. 154.
[5] Babinger, 1978, p. 382.
[6] Kinross Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape, 1977, p. 137.
[7] إبراهيم بك حليم تاريخ الدولة العثمانية العلية (التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية)، بيروت، لبنان: مؤسسة الكتب الثقافية ، 1988م صفحة 67.
[8] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001, p. 62.
[9] Lowry Heath W. The Nature of the Early Ottoman State [Book]. - USA : State University of New York Press, Albany, 2003, p. 116.
[10] Babinger, 1978, p. 382.
[11] Nossov Konstantin The Fortress of Rhodes 1309–1522 [Book]. - Oxford, UK : Osprey Publishing, 2010, p. 6.
[12] Babinger, 1978, p. 382.
[13] Freely, 2009, p. 155.
[14] Sacerdoțeanu Aurelian Descălecători de țară, dătători de legi și datini (II) [Book]. - [s.l.] : Magazin Istoric. III (1),, 1969, pp. 40-41.
[15]Eagles Jonathan Stephen the Great and Balkan Nationalism: Moldova and Eastern European History [Book]. - [s.l.] : I.B. Tauris, 2014, p. 216.
[16] Riley-Smith Jonathan The Knights Hospitaller in the Levant, c.1070-1309 [Book]. - New York, USA : Palgrave Macmillan, 2012, pp. 16-27.
[17] Vann Theresa M and Kagay Donald J Hospitaller Piety and Crusader Propaganda [Book]. - England : Ashgate, Surrey., 2015, pp. 1-11.
[18] Drane Augusta Theodosia The Knights of St. John [Book]. - London. England : Burns & oates, 1858, pp. 1-11.
[19] Savona-Ventura Charles Knight Hospitaller Medicine in Malta [Book]. - Malta : P. E. G. Ltd, 2004, p. 11.
[20] Nicholson Helen J The Knights Hospitaller [Book]. - Woodbridge, England : The Boydell press, 2001, p. 48.
[21] Vann, et al., 2015, p. 1.
[22] Nossov Konstantin The Fortress of Rhodes 1309–1522 [Book]. - Oxford, UK : Osprey Publishing, 2010, p. 5.
[23] Freely, 2009, p. 154.
[24] Vann, et al., 2015, p. 2.
[25] Castillo Dennis Angelo The Maltese Cross: A Strategic History of Malta [Book]. - USA : Greenwood Publishing group west port, 2006, p. 41.
[26] Drane Augusta Theodosia The Knights of St. John [Book]. - London. England : Burns & oates, 1858, pp. 6-7.
[27] Vann, et al., 2015, p. 2.
[28] Setton, 1976, vol. 2, p. 346.
[29] Vann, et al., 2015, p. 34.
[30] Nossov Konstantin The Fortress of Rhodes 1309–1522 [Book]. - Oxford, UK : Osprey Publishing, 2010, pp. 8-40.
[31] Freely, 2009, pp. 153-154.
[32] Vann, et al., 2015, pp. 4-7.
[33] Setton, 1976, vol. 2, p. 346.
[34] Vann, et al., 2015, p. 33.
[35] Luttrell Anthony The Town of Rhodes, 1306-1356 [Book]. - [s.l.] : City of Rhodes Office for the Medieval Town, 2003, pp. 49-50.
[36] Gibbon Edward The Crusades [Book]. - London : Murray and son,, 1870, pp. 135-160.
[37] Vann, et al., 2015, pp. 35-37.
[38] Setton, 1976, vol. 2, p. 348.
[39] Vann, et al., 2015, p. 34.
[40] Setton, 1976, vol. 2, p. 346.
[41] Setton, 1975, vol. 3, p. 324.
[42] Babinger, 1978, p. 382.
[43] Freely, 2009, p. 155.
[44] Vale Malcolm Graham Allan Charles the Seventh (Charles VII) [Book]. - los Angeles, USA : University of California Press, 1974, p. 89.
[45] Freely, 2009, p. 155.
[46] Vann, et al., 2015, p. 35.
[47] Babinger, 1978, p. 382.
[48] Setton, 1976, vol. 2, p. 347.
[49] Babinger, 1978, p. 382.
[50] Setton, 1976, vol. 2, p. 346.
[51] Freely, 2009, p. 155.
[52] Babinger, 1978, p. 382.
[53] Setton, 1976, vol. 2, p. 349.
[54] Freely, 2009, p. 156.
[55] Freely, 2009, p. 155.
[56] Setton, 1976, vol. 2, p. 341.
[57] Babinger, 1978, p. 390.
[58] Setton, 1976, vol. 2, p. 341.
[59] Vann, et al., 2015, p. 36.
[60] Setton, 1976, vol. 2, p. 342.
[61] Babinger, 1978, p. 396.
[62] Vann, et al., 2015, p. 13.
[63] Ágoston Gábor Guns for the Sultan [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2005, p. 43.
[64] Babinger, 1978, p. 396.
[65] Vann, et al., 2015, p. 13.
[66] Freely, 2009, p. 156.
[67] Vann, et al., 2015, p. 13.
[68] حاجي خليفة تحفة الكبارفي أسفار البحار، تحقيق وترجمة: محمد حرب [كتاب]. - [مكان غير معروف] : دار البشير للعلوم والثقافة ، 2017م صفحة 73.
[69] Setton, 1975, vol. 3, p. 324.
[70] Setton, 1976, vol. 2, p. 351.
[71] Babinger, 1978, p. 396.
[72] Roy Kaushik Military Transition in Early Modern Asia 1400 - 1750: Cavalry, Guns, Government and Ships [Book]. - New York, USA : Bloomsbury publishing house, 2014, p. 38.
[73] Freely, 2009, p. 156.
[74] Setton, 1975, vol. 3, p. 324.
[75] Brockman Eric The two sieges of Rhodes, 1480-1522 [Book]. - Michigar, USA : J. Murray, 1969, p. 43.
[76] كتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 711- 734.
التعليقات
إرسال تعليقك