ملخص المقال
كان أبو بكر المروزي المعروف بالقفَّال الصغير، وحيد زمانه فقهًا وحفظًا وورعًا وزهدًا، وصار يضرب به المثل.
هو أبو بَكْر عبد الله بْن أحمد المَرْوَزِيّ القَفَّال (الصغير). [المتوفى: 417 هـ]
وسُمِّي القفَّال نسبةً إلى عمل وصناعة الأقفال.
هناك قفَّالان مشهوران في التاريخ الإسلامي:
القفال الكبير: اشتهر بها القفال الكبير الشاشي (من مواليد مدينة الشاش، وهي طشقند عاصمة أوزبكستان). أبو بكر محمد بن علي القفال الشاشي، (291 - 365 هـ)، كان إمام عصره في بلاد ما وراء النهر، فقيهًا محدِّثًا، مفسِّرًا، أصوليًّا، لغويًّا، شاعرًا، لم يكن للشافعية في بلاده مثله في وقته، وصنَّف في التفسير والأصول والفقه، من مؤلفاته: شرح الرسالة، ودلائل النبوة، ومحاسن الشريعة.
والقفال الصغير لأنه جاء بعده وهو أبو بكر عبد الله بن أحمد المروزي الفقيه، ولد سنة 327هجرية، وتوفي سنة 417هجرية، عن ناهز عمر 90 سنة، كان موطنه مدينة مرو من مدن تركمنستان.
قال عنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية: الإِمَام الزَّاهِد الْجَلِيل الْبَحْر أحد أَئِمَّة الدُّنْيَا.. من أعظم محَاسِن خُرَاسَان، كان إِمَامًا كَبِيرا، وبحرا عميقا، غوَّاصا على الْمعَانِي الدقيقة، نقي القريحة، ثاقب الْفَهم، عَظِيم الْمحل، كَبِير الشَّأْن، دَقِيق النّظر، عديم النظير.
الموقف: تغيير المسار:
قال ياقوت الحموي: «وكان ابتداء اشتغاله بالفقه على كبر السن، حدثني بعض فقهاء مرو بفنين من قراها أن القفّال الشاشي (الكبير) صنع قفلًا ومفتاحًا وزنه دانق واحد (حوالي نصف كيلو) فأعجب الناس به جدّا وسار ذكره وبلغ خبره إلى القفّال هذا فصنع قفلًا مع مفتاحه وزنه طسّوج (تقريبًا 100 جرام) وأراه الناس فاستحسنوه ولم يشع له ذكر (كان هذا في آخر حياة القفال الكبير)
فقال يومًا لبعض من يأنس إليه: ألا ترى كلّ شيء يفتقر إلى الحظ؟ عمل الشاشي قفلًا وزنه دانق وطنّت به البلاد، وعملت أنا قفلًا بمقدار ربعه ما ذكرني أحد! فقال له: إنما الذكر بالعلم لا بالأقفال!
(من المؤكَّد أن العمل الحلال خيرٌ في كلِّ الأحوال، لكن لا يوازي أحدٌ العلماء في قدرهم: العلماء ورثة الأنبياء).
فرغب في العلم واشتغل به وقد بلغ من عمره أربعين سنة (وفي رواية ثلاثين) وجاء إلى شيخ من أهل مرو وعرّفه رغبته فيما رغب فيه فلقّنه أول كتاب المزني (مختصر إسماعيل المزني المصري هو أشهر كتب الشافعية المختصرة وعليه شروح كثيرة، وهو من تلامذة الشافعي. قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي)، وهو: هذا كتاب اختصرته، فرقي إلى سطحه وكرّر عليه هذه الثلاثة ألفاظ من العشاء إلى أن طلع الفجر فحملته عينه فنام ثم انتبه وقد نسيها فضاق صدره وقال: أيش أقول للشيخ؟
وخرج من بيته فقالت له امرأة من جيرانه: يا أبا بكر لقد أسهرتنا البارحة في قولك هذا كتاب اختصرته، فتلقنها منها وعاد إلى شيخه وأخبره بما كان منه، فقال له: لا يصدّنّك هذا عن الاشتغال فإنك إذا لازمت الحفظ والاشتغال صار لك عادة، فجدّ ولازم الاشتغال حتى كان منه ما كان فعاش ثمانين سنة أربعين جاهلا وأربعين عالما، وقال أبو المظفّر السمعاني: عاش تسعين سنة ومات سنة 417، ورأيت قبره بمرو وزرته، رحمه الله تعالى[1].
قال الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الجويني (أبو الجويني إمام الحرمين): َسمعت الْقفال يَقُول ابتدأت التَّعَلُّم وَأَنا لَا أفرق بَين اختصرتَ واختصرتُ. قَالَ ابْن الصّلاح أَظن أَنه أَرَادَ بِهَذَا "الْكَلِمَة الأولى من مُخْتَصر الْمُزنِيّ" وَهُوَ قَوْله اختصرتُ هَذَا من علم الشَّافِعِي وَأَرَادَ أَنه لم يكن يدري من اللِّسَان الْعَرَبِيّ مَا يفرق بِهِ بَين ضم تَاء الضَّمِير وَفتحهَا!
تخرَّج القفّال عَلَى أَبِي زيد الفاشانيّ المروزي (من أئمة الشافعية الأجلَّاء)، وسمع الحديث بمَرْو، وبُخارى، وهَرَاة. (حسن النيَّة يسَّر له هذا التعليم)
لمحات من حياة القفَّال الصغير:
1- وصف ابن خلكان في وفيات الأعيان: كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، وله في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ما ليس لغيره من أبناء عصره، وتخاريجه كلها جيدة وإلزاماته لازمة.
2- اشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، منهم الشيخ أبو علي السنجي (فقيه العصر) والقاضي حسين بن محمد (حبر المذهب) (هذان هما أجلُّ تلامذة الشيخ) والشيخ عبد الله أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين (والد أبي المعالي عبد الملك الجويني) وغيرهم، وكل واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد، وأخذه عنهم أئمة كبار أيضاً. (قال السبكي: فظهرت بركته على مختلفيه)
3- شرح فروع أبي بكر محمد بن الحداد المصري (الفروع المولَّدات) (من أكبر علماء الشافعية) فأجاد في شرحها، وهو كتاب مشكل مع صغر حجمه، وفيه مسائل عويصة وغريبة، والمبرز من الفقهاء الذي يقدر على حلها وفهم معانيها.
4- قَالَ الفقيه ناصر بن الحسين العُمَرِيُّ (من كبار العلماء، ومن الزهَّاد، وهو من نسل عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولذلك يُلَقَّب بالعمري، ومن تلامذته البيهقي): لم يكن في زمان أَبِي بَكْر القَفّال أفقه مِنه ولا يكون بعده مثلُه، وكنا نقول: إنّه مَلَكٌ في صورة إنسان.
5- قال أبو بَكْر السّمْعانيّ في "أماليه": وحيد زمانه فِقْهًا وحِفْظًا وَوَرَعًا وزُهدا، وله في المذهب مِن الآثار ما لَيْسَ لغيره مِن أهل عصره. وطريقته المهذَّبة في مذهب الشّافعيّ الّتي حملها عَنْهُ أصحابه أمتنُ طريقة وأكثرها تحقيقًا. (صاحب طريقة الخُراسانيين في الفِقْه). وَقد صَار مُعْتَمد الْمَذْهَب على طَريقَة الْعرَاق وحامل لوائها أَبُو حَامِد الإسفرايني وَطَرِيقَة خُرَاسَان والقائم بأعبائها الْقفال الْمروزِي؛ هما رحمهمَا الله شَيخا الطريقتين إِلَيْهِمَا الْمرجع، وَعَلَيْهِمَا الْمعول.
6- كَانَ القفّال قد ذهبت إحدى عينيه.
7- وحكى القاضي حسين بن محمد عَنْ القفّال أستاذه أنّه كَانَ في كثير مِن الأوقات في الدّرْس يقع عَليْهِ الُبكاء. ثمّ يرفع رأسه ويقول: ما أغفلنا عمّا يُراد بنا
8- كان لا يأخذ شيئًا من ديوان السلطان (محمود الغزنوي): احتسب بعض الفُقهاء المختلفين إلى القفّال عَلَى بعض أتباع الأمير متولّي مَرْو، فرفع الأميرُ ذَلِكَ إلى محمود بْن سُبُكتكين فقال: أيأخذ القفّال شيئًا مِن ديواننا؟ قَالَ: لا. قَالَ: فهل يتلبّس بشيءٍ مِن الأوقاف؟ قَالَ: لا. قَالَ: فإن الاحتساب لهم سائغٌ. دَعْهم.
9- وَعَن القَاضِي حُسَيْن رَحمَه الله قَالَ: كنت عِنْد الْقفال، فَأَتَاهُ رجل قروي وشكا إِلَيْهِ أَن حِمَاره أَخذه بعض أَصْحَاب السُّلْطَان، فَقَالَ لَهُ الْقفال: اذْهَبْ فاغتسل، وادخل الْمَسْجِد، وصل رَكْعَتَيْنِ، واسأل الله تَعَالَى أَن يرد عَلَيْك حِمَارك، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَرَوِي كَلَامه، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقفال، فَذهب الْقَرَوِي فاغتسل، وَدخل الْمَسْجِد وَصلى، وَكَانَ الْقفال قد بعث من يرد حِمَاره، فَلَمَّا فرغ من صلَاته رد الْحمار، فَلَمَّا رَآهُ على بَاب الْمَسْجِد خرج وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي رد عَليّ حماري، فَلَمَّا انْصَرف سُئِلَ الْقفال عَن ذَلِك، فَقَالَ: أردْت أَن أحفظ عَلَيْهِ دينه كي يحمد الله تَعَالَى.
10- دفن بسجستان، وقبره بها معروف يزار، رحمه الله تعالى.
تطبيقات عملية:
تغيير المسار لا يرتبط بعمر أو بظروف
لا داعي لإكمال المسيرة في طريق لا ترغب فيه، أو لا تجد نفسك فيه.
أقول هذا الكلام لطالب في كلية لا يحبها، أو لموظَّف في مجال لا يرغب فيه
ويتميَّز ابن القفَّال أنه غيَّر اتِّجاهه إلى طريق يفيد في الآخرة[2].
[1] «معجم البلدان» (5/ 116).
[2] لمشاهدة الحلقة من على اليوتيوب اضغط على الرابط التالي: القفال الصغير وتغيير المسار
التعليقات
إرسال تعليقك