جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
أبيي هي المنطقة الفاصلة بين شمال وجنوب السودان، وهي منطقة متنازع عليها بين دولة الشمال ودولة الجنوب حاليا.. فما تفاصيل مشكلة أبيي؟ وما علاقة أبيي بمصر؟
أبيي لمن لا يعلم هي المنطقة الفاصلة بين شمال وجنوب السودان، وهي منطقة متنازع عليها بين (دولة الشمال) و(دولة الجنوب) حاليًا، بعدما انفصل الجنوب رسميًّا بموجب استفتاء يناير 2011م واختيار غالبية السكان الانفصال. وهي منطقة شهدت عشرات المرات مناوشات وقتالاً بين قوات حكومة الخرطوم ومتمردي حركة جنوب السودان (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، آخره نصب قوات الجنوب كمينًا لقوات الشمال ومعها قوات الأمم المتحدة قُتل فيه 20 جنديًّا شماليًّا على الأقل.
وأبيي هي مثلث غني بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن والمياه، يتبع إداريًّا لجنوب كردفان بالسودان، ولكنه يمتد جغرافيًّا إلى داخل ولاية بحر الغزال في الجنوب، وسمي "مثلث أبيي"؛ لأن المنطقة أشبه بمثلث يلمس ثلاث ولايات، حيث تحد هذه المنطقة من الناحية الشرقية "ولاية الوحدة"، وجنوبًا "ولاية شمال بحر الغزال"، وغربًا "ولاية جنوب دارفور".
ولكن ما هي علاقة أبيي بمصر؟ وكيف يمكن أن تؤثر الحرب المتصاعدة هناك على الثورة المصرية؟
المسألة ببساطة شديدة تتعلق برغبات صهيونية وأمريكية في إشعال صراع في هذه المنطقة بين الشمال والجنوب، والانتقال إلى الخطة (ب) المتعلقة بتقسيم السودان وتفتيته بعدما نجحوا في تنفيذ الخطة (أ) بفصل الجنوب عن الشمال. أما هذه الخطة الجديدة فتتعلق ليس فقط بالسعي لتفتيت ما تبقى من السودان وتأجيج مشكلات أخرى في دارفور وغيرها، وإنما أيضًا شغل المصريين بهذه الحرب المتوقعة بين الشمال والجنوب، وبالتالي ضرب الثورة المصرية ومنعها من الاستقرار!
ولكن ما هو الجديد في هذه البؤرة المتفجرة (أبيي) الذي يمكن أن يضر مصر وثورتها، في وقت تحتاج فيه مصر للانكفاء على مشكلاتها الداخلية، بعدما نجت مصر من توريطها في خطة الزحف على غزة، وهي ليست جاهزة بعدُ للاشتباك مع العدو الصهيوني في معارك لا كلاميَّة ولا فعليَّة؟
الجديد هو تعمد قوات الحركة الشعبية في أبيي فرض أمر واقع في المدينة بهدف ضمها لدولة الجنوب، بعدما ظهرت خلافات حول تصويت قبائل المسيرية العربية في استفتاء تقرير المصير مع قبائل الدينكا بور، خصوصًا بعدما أكد علي عثمان محمد طه نائب الرئيس السوداني تبعية منطقة "أبيي" لرئاسة الجمهورية في الشمال وليس لحكومة الجنوب، وصدرت تصريحات سودانية أخرى تؤكد أنها تابعة للشمال.
وجاء العدوان الأخير ليؤكد نوايا الحركة الشعبية تصعيد القتال للضغط على الخرطوم والقاهرة معًا أو على الأقل زيادة الضغوط الدولية على الخرطوم -في ظل انشغال الثورة المصرية في أوضاعها الداخلية- وللرد أيضًا على هزيمة مرشح الحركة الشعبية أمام مرشح الخرطوم في انتخابات جنوب كردفان، بعدما أعلنت مفوضية الانتخابات السودانية انتخاب أحمد محمد هارون -المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية- واليًا لمنطقة جنوب كردفان بعد أن تقدم على مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي كانت أعلنت رفضها للنتائج مشككة في مصداقيتها.
فعند الساعة الواحدة من صباح الجمعة 20 مايو 2011م وعلى بعد 7 كيلومترات شمال مدينة أبيي، قام الجيش الشعبي بنصب كمين لقوات الأمم المتحدة وقوات الخرطوم في القوات المشتركة في أبيي وقوامها 200 جندي تقريبًا، مستخدمًا أسلحة ثقيلة، فقُتل حوالي 25 جنديًّا وأصيب 10، واعتبر 150 في عداد المفقودين، بحسب إحصاءات أولية لخسائر الهجوم.
وتبع هذا إعلان الجيش السوداني منطقة أبيي الحدودية المتنازع عليها بين الشمال والجنوب "منطقة حرب"، بعد أن اتهم جيش الجنوب بنصب كمين لسريتين تضمان أفرادًا من قواته وقوات تتبع للأمم المتحدة "يونميس"، أسفر عن سقوط جميع أفرادها الـ200 بين قتيل وجريح ومفقود، فيما نجا 3 جنود فقط من الهجوم.
وقال اللواء صديق عامر نائب رئيس هيئة الاستخبارات والأمن، عضو مجلس الدفاع المشترك في مؤتمر صحفي في الخرطوم: إن القوات المسلحة "تحتفظ بحق الرد على هذا العدوان في الزمان والمكان المناسبين".
وبالمقابل نفى الجنوبيون تعمدهم الاعتداء على قوات الجيش السوداني، ولم يحددوا مَن اعتدى على الجنود السودانيين أو جنود الأمم المتحدة، وزعموا أن الجيش السوداني "يحضِّر لاحتلال أبيي ويجهزون قوات من الدفاع الشعبي، وأنهم نقلوا قواتهم شمالاً بعد أن أكملوا تحضيراتهم لاحتلال أبيي".
وما يزيد الوضع توترًا هناك ويدفع باتجاه حرب بين الشمال والجنوب برغم انفصال الجنوب، هو أن مجلس الدفاع المشترك بين شمال السودان وجنوبه قرر في 12 مايو الجاري فك الارتباط بين الوحدات المشتركة من الجانبين في أبيي، على أن تنسحب وحدات شمال السودان شمال أبيي والجيش الشعبي جنوبها بعدما انفصل الجنوب وأصبح دولة مستقلة.
فالوحدات المشتركة هي قوات من الجانبين أنشئت بموجب اتفاق السلام الشامل 2005م، وقد انتهت مهمتها في مناطق جنوب السودان بعد أن اختار الجنوبيون الانفصال عن الشمال بأغلبية كبيرة في استفتاء التاسع من يناير 2011م، وكان من المقرر أن يجري في أبيي استفتاء يتزامن مع استفتاء الجنوب يقرر فيه سكانها تبعيتهم للشمال أو الجنوب، ولكنه تأجل لخلاف بين طرفي اتفاق السلام الشامل حول من يحق له التصويت في الاستفتاء.
أبيي .. قنبلة تفجير الاستقرار
والحقيقة أن مشكلة أبيي أشبه بقنبلة زمنية قابلة للتفجير يمسك بها أساسًا الغرب، ويستخدم الجنوبيين كفتيل إشعال لهذه القنبلة لتفجير وحدة السودان كله، وتنفيذ المرحلة الثانية من تفتيته، بخلاف الخسائر الأخرى الجانبية المحتملة المتمثلة في ضرب استقرار مصر وشغلها في صراع على حدودها الجنوبية، وبالتالي إلهاؤها عن الصراع مع الصهاينة في الشمال.
ففي ظل حالة التسخين المتصاعد والتدخلات الغربية لإنفاذ مخطط فصل الجنوب وتنشيط خطة تفتيت السودان، تصاعد الحديث عن قضية مماثلة في أبيي التي يوجد بها قرابة مليون من أهل السودان العرب من قبيلة المسيرية يمتلكون قرابة 10 آلاف رأس بقر، و9 "مشيخات" لقبائل الدينكا بور ذوي الأصول الإفريقية، وجرى النفخ في نيران العصبية القبلية والعنصرية بين الجنس العربي والإفريقي، كما فعل الغرب في دارفور، مستندين لاختلافات جوهرية بين العرب والأفارقة في أبيي تصلح لتكون وقودًا للصراع، حيث العرب مسلمون والدينكا وثنيون في أغلبهم أو مسيحيون، ويسهل الوقيعة بينهم سياسيًّا رغم أنهم يعيشون مع بعضهم البعض منذ مئات السنين هناك!
بعبارة أخرى نحا المخطط الغربي لاتخاذ مشكلة أبيي -كما يقول الصادق بابو نمر أحد قادة المسيرية- "خنجرًا مسمومًا مسلطة على اتفاقية سلام الجنوب"، وسعى في هذا الصدد -كما يوضحه الدكتور وليد سيد رئيس مكتب حزب المؤتمر الوطني في القاهرة- لتوسيع الدور الخارجي في المشكلة وتوسيع دائرة الخلاف بين الدينكا والمسيرية، ما أدى لشد وجذب بين الطرفين ينتج عنه مستقبلاً انضمام أطراف سودانية من أصول عربية لوجهة نظر المسيرية، وأخرى إفريقية لوجهة نظر الدينكا بور، بما يؤدي في النهاية لتوسيع الصراع وتحويله إلى صراع عربي- إفريقي يسهم في مزيد من تمزيق السودان عرقيًّا وطائفيًّا ويخدم مخطط التفتيت الغربي!!
وبرغم أن أبيي -بحسب الصادق بابو نمر أحد قادة المسيرية- لم تكن يومًا من أرض جنوب السودان، كما أن المسيرية هم الأبكر حضورًا وتوطينًا فيها منذ القرن الـ18، في حين توطنها الدينكا في القرن التاسع عشر، وهذا ثابت في وثائق إنجليزية، فقد استمرت الدعوات الإعلامية الغربية في تصوير الأمر خلاف هذا.
وكان من تداعيات اتفاق خريطة طريق أبيي بين الخرطوم والحركة الشعبية أن الاتفاق ظلم عرب المسيرية الذين ينقسمون لقبلتين هناك، وجاء لحساب مشيخات (عشائر) الدينكا نقوك السبعة في المنطقة؛ لأن عرب المسيرية يعود تاريخهم هناك لمنتصف القرن السابع عشر، وهم الذين استضافوا مشيخات الدينكا الفارَّة من حروب القبائل، ولكنهم أصبحوا -وفق الاتفاق- أقلية رغم أنهم أغلبية، وأصبح رئيس إدارة أبيي الجديد جنوبيًّا دينكاويًّا ونائبه من المسيرية، ولم يعد لهم النصيب الأكبر من نفط المنطقة.
بل وقيل: إن الاتفاق -الذي لم ينص على نسبة محددة تخصص لمنطقة أبيي من عائدات نفطها- واقتصر على بند جاء فيه أن تسهم حكومة الوحدة الوطنية وحكومة الجنوب بنسبة 50% و25% على التوالي من نصيبها في عائدات النفط بالمنطقة لصندوق تؤسسه الرئاسة لتنمية المناطق على طول حدود الشمال والجنوب، مما ميَّع (من مائع) القضية، واستهدف هذا البند الالتفاف على أي مطالبة مستقبلية من المسيرية بنصيب لهم من عائدات النفط.
المشكلة بالتالي أن حكومة الخرطوم رضيت بالدنيَّة في اتفاق سلام الجنوب فيما يخص أبيي؛ أملاً منها في أن هذه المشكلات لن يكون لها وجود أصلاً عندما يصوِّت الجنوبيون للوحدة، ولم يعملوا حسابًا للتدخلات الغربية وأجندة الحركة الشعبية الجنوبية المتمردة الخارجية، ومشاركتها ضمن مخطط تفتيت السودان أو إبقائه موحدًا بشرط واحد هو أن يلغي الشريعة ويتحول لسودان علماني.
ولهذا تحولت أبيي لقضية حساسة تعرقل تحديد حدود دولة الجنوب المزعومة، وتنغص حياة الخرطوم، وتهدد كل السودان بالتحول لحرب قبليَّة يسعى الغرب لاستغلالها حاليًا في نشر مزاعم عن وجود صراع قبلي عربي- إفريقي في أبيي؛ لجذب العرب للمسيرية والأفارقة للدينكا، وبالتالي عدم إحلال السلام في السودان أبدًا وتفتيته بصورة بشعة!
أما الأخطر فهو أن هذه القنبلة (أبيي) لو انفجرت فسوف تضرب بقوة استقرار الحدود الجنوبية لمصر، وتحمِّل الثورة مزيدًا من الأعباء الخارجية هي في غنى عنها، في وقتٍ تحتاج فيه مصر لتركيز جهودها على الاستقرار الداخلي، وهو هدف لن ترضاه أمريكا أو إسرائيل للمصريين، وربما يسعون بالتعاون مع أطراف جنوبية لتفجير حرب في السودان على حدود مصر الجنوبية تعرقل استقرار مصر وأمنها.
المصدر: موقع المسلم.
روابط ذات صلة:
- أبيي .. كشمير السودان
- أبيي .. برميل بارود يهدد وحدة السودان
- دولة جنوب السودان.. ورقة إسرائيل الجديدة ضد العرب
- جنوب السودان .. والمخططات الصهيوأمريكية
- لماذا السودان مقال بقلم د. راغب السرجاني
- قصة دارفور مقال بقلم د. راغب السرجان
التعليقات
إرسال تعليقك