جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
انفصال دولة الجنوب السوداني لن يكون بطبيعة الحال نهاية المطاف للمؤامرات التي تحاك ضد السودان، فما مخططات تفتيت السودان؟ وما تأثير انفصال الجنوب على مصر؟
احتفل الجنوبيون في السودان بإعلان دولتهم الانفصالية السبت 9 يوليو 2011م، وبعدها بدقائق معدودة بدأت الخطط الجنوبية لمناوشة الشمال تارة عبر إثارة المنتمين لحزب (الحركة الشعبية) الجنوبي للمشكلات في الخرطوم مطالبين بمعاملتهم كقوة سياسية معارضة، طارحين نفس منهج الحركة بشأن (سودان علماني)! وتارة عبر إثارة دولة الجنوب الانفصالية مشكلات إقليم أبيي وجنوب كردفان وحتى دارفور بهدف فصل هذه المناطق عن السودان الشمالي أيضًا ضمن خطط تفتيته.
أما أمريكا والغرب، فبدءوا على الفور استكمال مخطط تفتيت ما تبقى من السودان الموحد، عبر سلسلة إجراءات أبرزها: رفع العقوبات عن دولة الجنوب وإبقاؤها على الشمال (برغم الوعود الأمريكية برفع العقوبات لو قبلت الخرطوم انفصال الجنوب!)، واستصدار قرار من مجلس الأمن بنشر قوة دولية تقدر بسبعة آلاف جندي في دولة الجنوب الانفصالية بهدف حمايتها في حالة نشوب أي حرب مع الشمال، فضلاً عن المطالبة بخطط أخرى لنشر قوات دولية في جنوب كردفان ودارفور لاستكمال مخطط التفتيت.
ونشير هنا لتأكيد مصادر سودانية أن السلطات الرسمية في السودان عثرت -وهي تسعى لمطاردة مالك عقار ممثل الحركة الشعبية في جنوب كردفان الذي دخل في حرب أهلية هناك بعد خسارته انتخابات الولاية- على خريطة كانت موجودة لدى هذا القيادي في الحركة الشعبية بجنوب كردفان تشير إلى مزيد من الانقسام في السودان، وتؤكد المصادر أن أحدًا من السودانيين لن يسمح بانفصال أي جزء آخر من السودان، سواء في دارفور أو كردفان أو الشرق أو غيرها، وأن المحادثات التي جرت في نيفاشا وأفضت لفصل الجنوب لن تتكرر مرة أخرى.
فالذي لا شك فيه هو أن انفصال جنوب السودان سيتحول إلى زلزال جيو سياسي واسع النطاق في السودان الجنوبي نفسه والسودان الأم وباقي المنطقة العربية والإفريقية المحيطة؛ لأن عشرات الحركات الانفصالية الطائفية أو العرقية الناشطة في شتى بقاع العالم العربي وإفريقيا أصبحت تنظر إلى هذا الانفصال باعتباره نموذجًا يجب الاحتذاء به؛ بهدف تحقيق طموحات عشرات من الأقليات السكانية ذات التطلعات القومية للانفصال عن دولها وبناء الدولة الخاصة بها، وهي تطلعات تضر بدول مثل مصر (الأقليات النصرانية والنوبيون)، والجزائر (الأمازيغ)، والعراق (الأكراد)، وحتى بعض دول الخليج (الأقليات الشيعية)، ناهيك عن أقليات عرقية وقبلية في إفريقيا سعت منظمة الوحدة الإفريقية لقمع انفصالها بالنص على رفض تعديل الحدود الموروثة من الاستعمار، ولكن انفصال الجنوب أرسى تقليدًا خطيرًا في هذا الصدد يسمح للجميع بالانفصال.
دولة السودان الجنوبي الجديدة ستكون هي الأحدث التي انفصلت عن أكبر وأول دولة عربية إفريقية، هي السودان الكبير مساحة وحدودًا وبترولاً وموارد، بموجب استفتاء شعبي أجري في التاسع من يناير الماضي. وكانت نتيجته تأييدًا من أهل الجنوب بالانفصال عن الشمال بنسبة 98.83%، وهو استفتاء نص عليه اتفاق السلام الشامل الذي وقع بين الجانبين عام 2005م، ولكنها دولة ولدت في ظروف غير عادية، وولدت ميتة تقريبًا، حيث الصراعات بين القوى القبلية والحزبية وقلة الموارد باستثناء البترول، وعدم وجود أي بنية تحتية تصلح لنشوء صناعة وتجارة على مستوى كبير.
حرب أهلية مع الشمال
والأهم أن استقلال جنوب السودان لم يكتمل بعد، حيث ما زالت هناك قضايا عالقة مع الشمال قد تؤدي إلى حرب أهلية ثالثة، أبرزها ترسيم الحدود، والنزاع بشأن تبعية منطقة أبيي، ويأتي ملف النفط في واجهة الخلاف كونه المورد الرئيسي الذي سيعتمد عليه كل من شمال السودان والدولة الناشئة في الجنوب، كما تضفي العلاقات الخارجية لدولة جنوب السودان مزيدًا من التوتر؛ حيث إنها تأتي عكس توجهات الشمال، وأبرزها علاقات الجنوب بإسرائيل التي ستصبح جارًا للسودان غصبًا عنه، عندما تترسخ أقدامها في دولة الجنوب عقب انفصالها رسميًّا.
الدولة الجنوبية الوليدة لن تكون أيضًا بمنأى عن أزمات سياسية وصراعات قبلية أشد وطأة من أزمات وصراعات الشمال؛ إذ إن الحركة الشعبية وحكومتها وقبيلتها ليست القوة السياسية الوحيدة في الجنوب، وليست القبيلة الأكثر عددًا وإن كانت الأكبر والأكثر نفوذًا وهيمنة، بوصفها تمثل النُّخبة الجنوبية الأفضل تعليمًا والمدعومة خارجيًّا. ومن ثَمَّ فإن الصراعات الجنوبية قد تسفر عن حرب أهلية جنوبية/ جنوبية، وذلك هو أخطر التحديات التي تواجه جنوب السودان بعد الانفصال. وهناك قوى وحركات وأحزاب قبلية وعرقية منشقة على حكومة الجنوب حاليًا وتقاتل الحكومة، وتسيطر على أجزاء كاملة من هذه الدولة الجنوبية.
أيضًا من أخطر القضايا الخلافية التي من شأنها أن تؤدي لاندلاع حرب بين الدولة الجنوبية الوليدة ودولة السودان التاريخية، هي قضية إقليم (أبيي) الذي يضم أغلبية مسلمة من قبائل المسيرية العربية، وأقلية من قبائل الدينكا بور. ومع هذا يطالب الجنوبيون بأن يتبع دولة الجنوب، ويرفضون إجراء تصويت على تبعية الإقليم تشارك فيه قبائل المسيرية، ويدفعون قبائل الدينكا التي تسيطر على الأنهار المائية بمنع المياه عن أبقار قبائل المسيرية!
وقد جرت بروفة لمواجهات بين الطرفين مؤخرًا حرص خلالها الجنوبيون على التهدئة لحين إعلان انفصال دولة الجنوب رسميًّا، وبدأت الأزمة بعد أن أعلن سلفا كير ميارديت، رئيس حكومة جنوب السودان، ضم أبيي لدستور جنوب السودان الجديد، والذي أعلنه، وردَّ الرئيس عمر البشير بتصريحات عنيفة، مؤكدًا أن الجنوب يريد "جرّ" الشمال للحرب، وهو الذي لا يرغب في السلام مع الشمال، كما أكد أن منطقة أبيي شمالية 100%، ومن حق قبائل المسيرية التي تسكنها منذ عشرات السنين.
ثم نصبت قوات من الجنوب كمينًا لقوات شمالية هناك قتل وأصيب فيه 200 جندي سوداني، ما دفع الخرطوم لدخول أبيي بالدبابات وفرض أمر واقع بالسيطرة على المدنية الرئيسية في أبيي. ومشكلة أبيي لم تكن نزاعًا على النفط فقط إنما نزاع على المياه بالمنطقة؛ إذ إن قبائل المسيرية العربية تمتلك آلافًا من رءوس الأبقار التي تحتاج للماء، ولو حصل الجنوب على أبيي فسوف يحكم على المسيرية بالموت بحرمانهم من الماء الذي هو بالنسبة للمسيرية سر الحياة وليس البترول إطلاقًا، برغم أن حكومة الشمال تنظر للبترول أساسًا.
وقد حاولت أطراف دولية التدخل بحل سلمي بعيدًا عن الحرب حقنًا للدماء والاشتباكات التي تحدث يوميًّا على أراضي منطقة "أبيي"، ونجح رئيس اللجنة الإفريقية لمتابعة اتفاقية السلام "ثابو مبيكي" في التوصل لاتفاق في شأن القضايا الخلافية العالقة بين الشمال والجنوب، سمِّي الاتفاق الإطاري الخاص في جنوب كردفان والنيل الأزرق ووُقِّع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وبموجبه اتفق على نشر قوات أثيوبية في أبيي وخلق منطقة عازلة، ولكن الخرطوم اشترطت أن تلتزم قوات الحركة الشعبية بسحب قواتها من مناطق نزاع في جنوب كردفان وأبيي، والأهم قبول الخرطوم فكرة عمل الحركة الشعبية - قطاع الشمال التي تضم شماليين أعضاء في الحركة الشعبية الجنوبية في الحياة السياسية في الشمال..
حيث توصل فريق الوساطة الإفريقي برئاسة الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثابو مبيكي بأديس أبابا في 20 يونيو الماضي إلى اتفاق إطاري بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان ينص على تطبيق نزع السلاح دون اللجوء إلى العنف، فضلاً عن التشكيل الفوري للجنة سياسية ستكلف ببحث ومعالجة قضية إدارة جنوب كردفان في شكل سلمي خلال ثلاثين يومًا. ودمج عناصر الجيش الشعبي لتحرير السودان (الشمالية) في الجيش الشمالي، واستمرار حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان في شمال السودان كحزب سياسي، إلا أن الاتفاق أدى إلى انقسام داخل صفوف المؤتمر الوطني الحاكم، وصعود تيارات تدعو لهزيمة المتمردين عسكريًّا.
غير أن الخرطوم عادت وأعلنت أن الاتفاق لن ينفذ إلا إذا خلت أبيي من كل المظاهر المسلحة، وهو ما قد يصعب على الحركة الشعبية أن تضمنه؛ لأنه حتى لو تم تنفيذ الاتفاق فإنه قد يتوقف؛ لأن مشكلة أبيي ما زالت صعبة الحل، ورفض الحزب الحاكم في الخرطوم اتفاق البشير، كما أن الحركة الشعبية لم تسحب قواتها، ما جعل البشير يبلغ مبيكي أن الاتفاق لاغٍ، وأكد الناطق الرسمي باسم حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم في السودان البروفيسور إبراهيم غندور أن الرئيس عمر البشير أبلغ رئيس لجنة حكماء إفريقيا ثامبو أمبيكي، خلال لقائه به في أديس أبابا (4/7)، رفض المكتب القيادي للمؤتمر الوطني (الاتفاق الإطاري) الذي تم إبرامه بين نائب رئيس المؤتمر الوطني الدكتور نافع علي نافع والحركة الشعبية قطاع الشمال في أديس أبابا مؤخرًا.
الدور الصهيوني في الجنوب
يقول د. حجازي إدريس المستشار الاقتصادي والمفكر السوداني مؤلف كتاب "السودان وكارثية انفصال الجنوب": إن انفصال جنوب السودان ليس صناعة سودانية وإنما صناعة غربية إسرائيلية، و"تاريخيًّا لا توجد قاعدة أساسية موحدة ارتكزت عليها نداءات الانفصال، ولكن تأجيجها كان يأتي دومًا من الخارج وفق حجج متنوعة مسنودة بدعم لوجيستي مالي عسكري "، وهو ما سوف ينعكس على أمن مصر القومي أيضًا، الذي سيصبح في خطر بعد انفصال الجنوب؛ لأن إسرائيل لعبت وتلعب في الجنوب من أجل تفتيت السودان، ومن أجل خلق ساحة حرب جديدة في المنطقة تناوش بها مصر، ومن أجل إثارة الاضطرابات في الجبهة الجنوبية المصرية تشغلها عن الجبهة الشمالية (إسرائيل)، مع ضمان فتح جبهة حرب ضد جنوب مصر في حال حدوث حرب مصرية "إسرائيلية" جديدة.
وفي هذا الصدد يؤكد الرئيس السوداني السابق المشير عبد الرحمن سوار الذهب أن "الدور الإسرائيلي والغربي في انفصال الجنوب كان رئيسيًّا، ونعتقد أن أمر الانفصال كان أولاً وأخيرًا ثمرة لتدبير غربي وأمريكي تحديدًا ونتيجة للتدخل الصهيوني المباشر؛ فإسرائيل كانت هي الممول الرئيسي للتمرد في الجنوب".
وعما إذا كان يعني بذلك أن إسرائيل أصبحت بفعل الأمر الواقع جارًا للسودان الشمالي، قال سوار الذهب: "سيكون لإسرائيل نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري كبير في الجنوب السوداني، لكن هذا لا يشعرنا أن إسرائيل جارة، هي موجودة في الجنوب، لكنها لن تأخذ مكانة الجار".
وأكد سوار الذهب أن "المؤامرة" لتفتيت السودان ما زالت مستمرة، لكنه قال: "نحن نعلم أن المؤامرة لمزيد تفتيت السودان ما زالت مستمرة، لكن لا أعتقد أن شماليًّا واحدًا سيكون مستعدًّا للتفريط بأي شبر من السودان في المستقبل. ودعا سوار الذهب القيادات السياسية السودانية في الشمال إلى المشاركة السياسية لإدارة البلاد من أجل الاستقرار، وقال: "أعتقد أنه حتى يستقر السودان الشمالي فإنه لا بد من إشراك كل القوى السياسية في حكومة عريضة كما قال الرئيس البشير، وإذا تم ذلك فإن السودان سيستقر بكل تأكيد"، على حد تعبيره.
وهذا المعنى أكده أيضًا البروفيسور (حسن مكي) مدير جامعة إفريقيا العالمية الذي وصف فصل الجنوب بأنه (محاولة لمعاقبة مصر)؛ لأن الجنوب يعني التوسع المياهي المرتقب أو المستقبلي لأمن مصر المائي، باعتبار أن كل قنوات المياه كقنوات "جونجلي" و"مشار" وغيرها من القنوات المستهدف من وراء حفرها زيادة كميات مياه النيل لمصر تقع في جنوب السودان.. والحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب ترفض حفرها بما سيضر مصر ويمنع زيادة مواردها المائية، فضلاً عما يمثله تواجد إسرائيل في الجنوب من تهديد لأمن مصر القومي.
انفصال دولة الجنوب لن يكون بطبيعة الحال نهاية المطاف للمؤامرات التي تحاك ضد السودان وضد وحدة الأراضي العربية عمومًا، وإنما هي الطلقة الأولى في هذه الحرب التي نجح الغرب وإسرائيل في إطلاقها وإصابة الهدف؛ مما قد يشجعهم على الانتقال لتنفيذ بقايا المخطط سواء بتفتيت ما تبقى من السودان أو بنقل تجربة انفصال الأقليات العرقية والدينية في العالم العربي بدولة مستقلة طائفية أو عرقية. وعلينا أن نتدبر هنا ما يفعله مثلاً أعضاء (الجمعية القبطية الأمريكية) من المتطرفين النصارى في أمريكا وتعاونهم مع أعضاء في الكونجرس الأمريكي بشأن ما يسمونه حماية أقباط مصر، ومطالبتهم بفرض الحماية على مصر ونشوء دولة قبطية في جنوب مصر.
المصدر: موقع المسلم.
روابط ذات صلة:
- لماذا السودان بقلم الدكتور راغب السرجاني
- قصة دارفور بقلم الدكتور راغب السرجاني
- حل مشكلة دارفور بقلم د. راغب السرجاني
- دولة جنوب السودان .. ورقة إسرائيل الجديدة ضد العرب
- دولة جنوب السودان.. تحديات الداخل أخطر !!
- أبيي .. برميل بارود يهدد وحدة السودان
التعليقات
إرسال تعليقك