التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كيف تأثر العالم الإسلامي بسقوط الأندلس؟
موقف العالم الإسلامي من سقوط الأندلس
كان المسلمون الأندلسيُّون في هذه الفترة لا يملكون بحالٍ مقوِّمات البقاء والمقاومة، بل كانوا يعتمدون في بقائهم خلال القرون الأربعة الماضية على الدعم المغربي فقط، من المرابطين، أو الموحدين، أو بني مرين، كما أنه بالإضافة إلى عزلة بلاد الأندلس عن بلاد المغرب نتيجة سقوط جبل طارق في أيدي النصارى في سنة (709هـ= 1309م)، فإنَّه في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي شهد المغرب أساسًا ضعفًا في ظلِّ بني وطَّاس، وشهدت الجزائر ضعفًا كذلك في ظلِّ بني زيان، ولم يكن الحال أفضل من ذلك في تونس تحت حكم الحفصيِّين، ومِنْ ثَمَّ فقدت الأندلس دعمها الرئيس، وآلت للسقوط! لم يجد الأندلسيُّون حلًّا -وهم في الرمق الأخير- إلَّا أن يتوجهوا إلى أكبر قوَّتين إسلاميَّتين في ذلك الوقت؛ وهما المماليك والعثمانيون، ولكن للأسف كان هذا التوجُّه متأخِّرًا جدًّا، كما كان متزامنًا مع الحرب العثمانيَّة المملوكيَّة الأولى، وهي المرَّة الأولى التي تدور فيها حربٌ حقيقيَّةٌ بين الدولتين المسلمتين الكبيرتين، ولذلك عُرِفت في التاريخ بالحرب العثمانيَّة المملوكيَّة الأولى، واستمرَّت ستَّ سنواتٍ كاملة؛ من 1485 إلى 1491م[1].
وقد قامت تلك الحرب لأسبابٍ تافهةٍ لا ترقى إلى أن تكون أسبابًا لحرب، إنَّ الصراع بين العثمانيِّين والمماليك هو صراعٌ جيو سياسي في الأساس، والصراع الجيو سياسي هو الصراع السياسي الذي نتج عن أسبابٍ جغرافيَّة؛ بمعنى أنَّه ليس هناك خلفيَّاتٌ عَقَدِيَّة، أو اجتماعيَّة، أو اقتصاديَّة، أو غيرها، أو على الأقل ليست هناك خلفيَّاتٌ مهمَّةٌ في هذه الوجوه؛ إنَّما نشأ الخلاف بين الفريقين نتيجة ظروفٍ جغرافيَّةٍ معيَّنة، وهي في حالة العثمانيِّين والمماليك كانت ظروفَ تَجَاوُرِ الأناضول مع شمال الشام؛ فالأناضول صار عثمانيًّا إلى حدٍّ كبير، بينما الشام كلُّه مملوكي، ومِنْ ثَمَّ صارت المناطق الجغرافيَّة الفاصلة بين الدولتين بؤرة صراعٍ ومنافسة[2]، واستمرَّت الحرب طوال السنوات الست سجالًا بين الطرفين مع تفوُّقٍ طفيفٍ للمماليك[3][4].
أدرك الطرفان -العثماني والمملوكي- بعد ستِّ سنواتٍ من النزال، أنَّ هذه الحرب لا طائل من ورائها، ولا غالب فيها أو مغلوب، ومِنْ ثَمَّ قَبِلا بوساطة سلطان الحفصيِّين التونسي[5]، الذي عقد معاهدة صلحٍ بين الطرفين على أن يعود الوضع الجغرافي والحدود إلى ما كانت عليه قبل الحرب[6]، وبذلك انتهت هذه الأزمة. وعلى الرغم من أنَّه لم تكن لتلك آثارٌ جغرافيَّةٌ كبيرة؛ إذ ظلَّ الوضع بعد الحرب كما كان عليه قبلها، فإنَّ الآثار النفسيَّة كانت عميقة، وهذا ما سيقود إلى حربٍ ثانيةٍ بعد انتهاء الأولى بخمسٍ وعشرين سنة، أدَّت إلى سقوط دولة المماليك نهائيًّا على يد الدولة العثمانية [7].
ومع أنَّ الحرب تبدو حربًا يسيرة؛ حيث لم يتوسَّع أحد الطرفين على حساب الآخر، إلَّا أنَّ العبء الاقتصادي على الدولتين كان كبيرًا، بالإضافة إلى الخسائر البشريَّة المهمَّة. وأكثر من ذلك هو حدوث بعض التطوُّرات السياسيَّة في المنطقة والعالم، ومن أبرز هذه التطوُّرات عدم انتباه الطرفين كذلك إلى التطوُّرات الحادثة في الأندلس؛ حيث كانت مملكة غرناطة تُعاني ضغطًا شديدًا من الإسبان، وفي ظلِّ الحرب العثمانيَّة المملوكيَّة لم يجد الطرفان المسلمان الكبيران مساحةً لمساعدةٍ ذات جدوى لمسلمي الأندلس، ومِنْ ثَمَّ حدث الانهيار الكامل بعد انتهاء الحرب بعامٍ واحد؛ أي في عام 1492.
وأكبر دليلٍ على ذلك ما رواه المؤرِّخ المعاصر لسقوط الأندلس مجير الدين الحنبلي، والمتوفَّى عام (1521م=927هـ)، قصَّةَ استنجاد القاضي الأندلسي شمس الدين بن الأزرق بقايتباي سلطان المماليك، فقال: «فحضر إلى السلطان الأشرف قايتباي -نصره الله تعالى- وكان منشغلًا بقتال سلطان الروم بايزيد بن عثمان»[8]. هكذا كان «انشغال» المسلمين ببعضهم البعض مضيِّعًا عليهم فرصة نجاة، ومع ذلك فردُّ فِعْلِ السلطان بايزيد الثاني كان أفضل؛ فقد حاول قدر استطاعته، وفي حدود إمكاناته آنذاك، أن يُقَدِّم دعمًا. لقد أرسل السلطان عدَّة سفنٍ عسكريَّةٍ إلى غرب البحر الأبيض المتوسط، وقامت هذه السفن بعملين كبيرين؛ أمَّا الأوَّل فهو قصف الموانئ الإسبانيَّة بشكلٍ مكثَّف[9]؛ وذلك لإرهاب الإسبان، وإشعارهم باحتمال غزو العثمانيِّين لإسبانيا في حال استمرارهم في حرب الأندلسيِّين المسلمين، وأمَّا العمل الثاني، وهو الأهمُّ، والأكثر واقعيَّة، فهو نقل المدنيِّين الهاربين من جحيم الكاثوليك إلى خارج حدود إسبانيا[10]. والجدير بالذكر أنَّ السفن العثمانيَّة لم تكن تنقل المسلمين فقط، بل كانت تنقل اليهود كذلك؛ وذلك لأنَّ كاثوليك إسبانيا لم يكونوا يقبلون ببقاء دينٍ إلى جوار دينهم، فكانوا يُكْرِهون المسلمين واليهود على تبديل دينهم إلى الكاثوليكيَّة، فكانت السفن العثمانيَّة منقذةً للجميع، والجدير بالذكر -أيضًا- أنَّ معظم المسلمين رغبوا في العيش في الشمال الإفريقي؛ لقربه من الأندلس، مع أحلام العودة مستقبلًا، بينما فضَّل اليهود أن يعيشوا في كنف الدولة العثمانية، التي قدَّمت لهم مأوًى آمنًا لم تُقدِّمه لهم أيُّ دولةٍ من دول العالم آنذاك! يقول المؤرِّخ اليهودي الأميركي إيلي كوهين Elli Kohen: «وجد معظم اليهود المطرودين من الأندلس مأوًى لهم في الدولة العثمانيَّة، وقد عاشوا حياةً سعيدةً هناك»[11]! ويقول المؤلِّف الإنجليزي بارنابي روچيرسون Barnaby Rogerson: «كان السلطان بايزيد الثاني هو الصوت العاقل الوحيد في هذه الحقبة، وفي خلال الفترة من 1492 إلى 1512م كان -أيضًا- الملك الحكيم الرحيم الذي سمح بهجرة الآلاف والآلاف، متبوعين بعشرات الآلاف من اليهود: التجار، والفنانين، ورجال المال، والعمَّال، إلى الجنة الآمنة في الدولة العثمانية»[12]، وهذه مجرَّد أمثلة من شهاداتٍ كثيرةٍ في هذا الشأن لا يتَّسع المجال لذكرها.
وقد يظنُّ بعضهم أنَّ هذا الجهد غير كافٍ، وأنَّه كان ينبغي للدولة العثمانية الدفاع عن الأندلس بالصورة التي تحفظها، وليس بمجرَّد تقديم الإيواء للفارِّين منها، ولكن هذا في الواقع افتراضٌ غير عمليٍّ ولا واقعي؛ فإنَّنا ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أمورًا عدَّة ستُوضِّح لنا الرؤية؛ منها بُعْد المسافة بين الدولة العثمانيَّة والأندلس، ومنها كثرة أعداء الدولة العثمانيَّة، وعدم قدرة الدولة على تأمين كافَّة حدودها إذا أطلقت جيوشها الأساسيَّة لدعم الأندلس، ومنها وجود أعداءٍ كثر على الطريق البحري المؤدِّي إلى الأندلس، كمملكة نابولي، ومملكة صقلِّيَّة، وأساطيل البابا، وكذلك البندقيَّة، بالإضافة إلى فرسان القديس يوحنا في رودس، ومملكة فرنسا، فضلًا عن وجود الأمير چم أخي السلطان بايزيد أسيرًا لدى البابا. كما ينبغي أن نراعي أنَّ الأسطول العثماني -وإن كان قد تقدَّم كثيرًا في عهد بايزيد الثاني- كان لا يزال أقلَّ في المستوى بشكلٍ ملحوظٍ من الأساطيل الأوروبِّيَّة؛ فحركته في البحر الأبيض تُعتبر مغامرةً غير آمنةٍ تمامًا. يُضاف إلى كلِّ ما سبق أنَّ أزمة الأندلس الأخيرة حدثت في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانيَّة منخرطةً -للأسف- في الحرب مع المماليك، وكذلك كانت تُعاني من اضطراباتٍ مخيفةٍ في الأناضول تُنذر بتفكُّكه، و-أيضًا- كانت تراقب بشغف التطوُّرات السياسيَّة الخطرة التي تحدث في إيران المجاورة، وهي إرهاصات قيام الدولة الصفويَّة الشيعيَّة.
تأثير سقوط الأندلس على العالم الإسلامي
شاء الله أن تشهد هذه المرحلة التاريخيَّة -أعني السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر والبدايات الأولى من القرن السادس عشر الميلاديَّين- عدَّة تغييراتٍ جذريَّةٍ في خريطة العالم السياسيَّة، فظهرت قوى عالميَّة جديدة، وتضاءلت قوى أخرى، وكان لكلِّ هذا تأثيرٌ مباشرٌ على العالم الإسلامي ككل، وكان من هذه التغييرات ظهور إمبراطوريَّات كبرى كان لها تأثيرٌ كبيرٌ على مجريات الأحداث العالمية؛ مثل إمبراطوريَّات إسبانيا، والبرتغال، وروسيا، والنمسا، والصفويِّين بإيران، كما تطوَّرت أوروبَّا الغربيَّة علميًّا واقتصاديًّا بشكلٍ لافت ممَّا أدَّى إلى نموِّ إنجلترا وفرنسا لاحقًا بصورةٍ مؤثِّرة، وصاحَب هذا التضخُّم لهذه الإمبراطوريَّات أفول لنجوم إمبراطوريَّاتٍ أخرى؛ كالمجر، والبندقيَّة، وإمبراطوريَّة البابا في روما، غير أنَّ أبرز تلك القوى كانتا إمبراطوريَّتا إسبانيا والبرتغال.
فعلى الجانب الإسباني؛ فقد تزامن مع سقوط الأندلس واستقرار الوضع في إسبانيا لصالح الكاثوليك، حدوث بعض التطوُّرات السياسيَّة والعسكريَّة التي أدَّت إلى تضخُّم القوَّة الإسبانيَّة بشكلٍ مخيف. كان من هذه التطوُّرات مثلًا اكتشاف كريستوفر كولومبس Christopher Columbus قارَّة أميركا الشمالية لصالح إسبانيا عام 1492[13]، ثم التنافس مع البرتغال على أميركا الوسطى والجنوبيَّة أوائل القرن السادس عشر، حيث أصبحت إسبانيا بذلك إحدى أعظم القوى في العالم في القرن السادس عشر والذي أطلق عليه المؤرِّخون (القرن الذهبي) لإسبانيا[14].
تضرَّر الشمال الإفريقي كثيرًا من القوَّة الإسبانيَّة؛ حيث حرصت إسبانيا على احتلال عدَّة موانئ في شمال إفريقيا؛ وذلك لتأمين قوافلها في البحر المتوسط، وخاصَّةً إلى صقلِّيَّة. نجحت إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر في احتلال عدَّة مدنٍ في المغرب، كمليلة عام 1497[15]، وفي الجزائر، كالمرسى الكبير، وجزيرة رباط الخيل، وحجر باديس، وبجاية، ومدينة الجزائر نفسها، ووهران[16]، بل وصلت الأساطيل الإسبانيَّة إلى ليبيا واحتلوا طرابلس عام 1510[17]! كانت هذه الاعتداءات تتمُّ للأسف بتعاون مع بعض الحكام المسلمين، مثل زعيم الحفصيِّين في تونس، وزعيم بني زيان في غرب الجزائر، وكانت هذه الدول الإسلاميَّة في أطوار حياتها الأخيرة. شهدت المنطقة مقاومةً إسلاميَّةً جيِّدة، وبرز عددٌ من القباطنة قاموا بحملاتٍ مضادَّةٍ ضدَّ الأساطيل التجاريَّة والعسكريَّة الإسبانيَّة، وكذلك على الموانئ الإسلاميَّة المحتلَّة في شمال إفريقيا، و-أيضًا- على بعض الموانئ الأوروبِّيَّة في إسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، ومالطة. كان من أبرز هؤلاء القبطان بابا عرُّوج، وهو من أصل ألباني على الأغلب[18]، وقد أطلق عليه الأوروبِّيُّون لقب: «بربروسا» Barbarossa، وتعني بالإيطالية: صاحب اللحية الحمراء[19]. كانت حملات هذا القبطان ناجحة، وحقَّق عدَّة انتصاراتٍ على الإسبان، ووصل به الأمر إلى تحرير مدينة الجزائر من الإسبان، وأقام حكومةً مستقلَّةً في شرق الجزائر، وجعل عاصمتها مدينة دِليس Dellys، ثم ضمَّ مدينة تلمسان المهمَّة في غرب الجزائر إلى دولته[20].
انزعجت إسبانيا جدًّا من هذا النموِّ المطرد لبابا عروج، فوجَّهت إليه جيشًا قويًّا حاصر تلمسان، وتمكَّنت من قتله في عام 1518م[21]. أصاب مقتل المجاهد الكبير بابا عروج المسلمين في الجزائر بخيبة أمل، لكنَّهم سرعان ما تعافوا من أزمتهم، واختاروا أخاه خضر -ولقبه «خير الدين»- حاكمًا عليهم، وقد اشتهر الرجل بلقب أخيه الشهيد: «بربروسا»، فصار خير الدين بربروسا. ولما كان موقف المقاومة الإسلاميَّة في شمال إفريقيا ضعيفًا، فلجأ خير الدين بربروسا إلى الدولة العثمانيَّة، وطلب في رسالةٍ إلى السلطان سليم الأول دخول الجزائر في تبعيَّة دولته[22]. في أواخر 1519 وافق السلطان سليم على الطلب الجزائري، ومَنَحَ خير الدين بربروسا رتبة بكلر بك؛ أي والي الجزائر، وأرسل إليهم فرقةً من الإنكشاريَّة[23]، واستطاعت الدولة العثمانيَّة الحفاظ على الشمال الإفريقي من الخطر الإسباني، الذي استمرَّ معظم القرن السادس عشر[24].
أمَّا البرتغال فقد كانت لها طموحاتٌ استعماريَّةٌ في أوائل القرن الخامس عشر، فامتلكت للمرَّة الأولى أرضًا خارج حدود أوروبا، وهو ميناء سبتة المغربي، وذلك في عام 1415[25]. وحدث تطوُّر مهيبٌ في مملكة البرتغال في أواخر القرن الخامس عشر؛ حيث اكتشف بحَّاروها بقيادة دياز Bartolomeu Dias رأس العواصف، ثم رأس الرجاء الصالح، جنوب إفريقيا عام 1488[26]، وبعدها بعشر سنوات اكتشفوا بقيادة فاسكو دي جاما Vasco da Gama الطريق إلى الهند، ووصلوا إليها بالفعل في 1498[27]، وكانت هذه نقلةً نوعيَّةً ضخمة حوَّلت المملكة المحدودة إلى إمبراطوريَّةٍ قادرةٍ قاهرة، وأتبعت ذلك باكتشاف البرازيل في عام 1500[28]، فصارت البرتغال بذلك واحدةً من أشدِّ القوى العالميَّة تأثيرًا في الأحداث في هذه الحقبة.
ظهرت البرتغال بذلك على الساحة الإسلاميَّة، وكان التفافها حول رأس الرجاء الصالح ومرورها في المحيط الهندي سببًا في اصطدامها بقوَّة المماليك البحريَّة في هذه المناطق، وعلى الرغم من أنَّ المماليك بذلوا وسعهم في حرب البرتغاليِّين، وحقَّقوا عليهم عدَّة انتصاراتٍ في المحيط الهندي وخليج عدن، فإنَّهم هُزِموا في موقعة ديو Diu الشهيرة عام 1509[29]، وبذلك استطاع البرتغاليُّون تحويل طرق التجارة العالميَّة من البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط، والطرق البرِّيَّة في العراق، والشام، ومصر، إلى المحيط الأطلنطي عبر رأس الرجاء الصالح، وهذا جرَّ أموالًا طائلةً على أوروبَّا الغربيَّة، بينما أثَّر سلبًا على المسلمين بشكلٍ ملموس.
كما لم تكتفِ البرتغال بالسيطرة على ميناء سبتة المغربي؛ فقد أرادت احتلال المغرب بأكمله، غير أنَّ الهزيمة التي تلقَّتها أمام الدولة السعديَّة في المغرب في معركة وادي المخازن 1578[30]، كانت هزيمةً قاضيةً تمامًا على أحلام البرتغاليِّين بتوسيع أملاكهم في المغرب؛ إذ فَنِيَ الجيش البرتغالي تقريبًا في هذا الصدام. كانت للمعركة آثارٌ ضخمةٌ للغاية، وهذه الآثار جعلت المعركة من المنعطفات التاريخيَّة الكبرى في أوروبَّا بشكلٍ خاص، وفي العالم بشكلٍ عام. محت هذه المعركة البرتغال من على خريطة العالم لمدَّة ستِّين سنةً متَّصلة؛ حيث احتلَّت إسبانيا البرتغالَ عام 1580[31]؛ وذلك بعد فناء الجيش البرتغالي، وورثت بذلك إسبانيا كلَّ ممتلكات البرتغال في الدنيا، واستمرَّ هذا الوضع إلى عام 1640[32].
وبذلك يمكن القول إنَّ القرن السادس عشر شهد استمرار القوى النصرانيَّة في شبه الجزيرة الأيبيريَّة في الحرب الصليبية على المسلمين، وهي القوى التي تمثَّلت في إسبانيا والبرتغال، فلم يكتفوا في القضاء على المسلمين في الأندلس، بل طمحوا إلى ما هو أكثر من ذلك مدفوعين بحماسةٍ دينيَّةٍ ونشوة نتيجة انتصاراتهم في الأندلس؛ حيث هدفوا إلى القضاء على المسلمين بالجملة، غير أنَّه بلطف الله كان للمسلمين في تلك المرحلة التاريخيَّة من القوَّة ما استطاعوا به صدَّ تلك الغارة العنيفة.
[1] صالح كولن: سلاطين الدولة العثمانية، ص85.
[2] لمزيد من التفصيلات حول الصراع العثماني المملوكي أواخر القرن الخامس عشر انظر كتاب الدولة العثمانية للدكتور راغب السرجاني (تحت الطبع).
[3] إبراهيم حليم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، ص71، 72.
[4] وليم موير: تاريخ دولة المماليك في مصر، ص174.
[5] نيقولاي إيڤانوڤ: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516 – 1574، ص56.
[6] خليل إينالچيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ص50، 51.
[7] لمزيد من التفصيلات حول الصراع العثماني المملوكي أوائل القرن السادس عشر انظر كتاب الدولة العثمانية للدكتور راغب السرجاني (تحت الطبع).
[8] مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ والخليل، 2/255.
[9] أحمد شيمشيرغيل: سلسلة تاريخ بني عثمان، 3/66.
[10] صالح كولن: سلاطين الدولة العثمانية، ص85.
[11] Elli Kohen: History of the Turkish and Sephardim: Memories of a Past Golden Jews Age, p. 22.
[12] Barnaby Rogerson: The Last Crusaders: East, West, and the Battle for the Center of the World, p. 170.
[13] جون إ. ويلز جونيور: العالم من 1450م حتى 1700م، ص41، 42.
[14] عباس حسن عبيس الجبوري، ستار حامد عبد الله العماري: المستعمرات الإسبانية في أفريقيا، ص526.
[15] أندرو هويتكروفت: الكفار: تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام، ص242.
[16] Jonathan Riley-Smith: The Atlas of the Crusades, p. 162.
[17] محمد مصطفى بازامه: ليبيا في عشرين سنة من حكم الإسبان (1510-1530)، ص55.
[18] Nuray Bozbora: Osmanlı yönetiminde Arnavutluk ve Arnavut ulusçuluğu'nun gelişimi, p. 16.
[19] Kris Lane, et al.: Pillaging the Empire: Global Piracy on the High Seas, 1500-1750, p. 9.
[20] عزيز سامح التر: الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية، ص62.
[21] وليم سبنسر: الجزائر في عهد (رياس) البحر، ص43.
[22] أحمد توفيق المدني: حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر واسبانيا 1492 – 1792، ص 196، 197.
[23] أندريه ريمون: المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ص21.
[24] للمزيد من تفاصيل المواجهات العثمانية الإسبانية في الشمال الإفريقي انظر كتاب الدولة العثمانية.
[25] جان بيرنجيه، وآخرون: موسوعة تاريخ أوروبا العام (أوروبا منذ بداية القرن الرابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر)، 2/200.
[26] ڨ. هايد: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى، 4/3، 4.
[27] بونداريفسكي: الغرب ضد العالم الإسلامي من الحملات الصليبية حتى أيامنا، ص16.
[28] ول ديورانت: قصة الحضارة، 23/56.
[29] John Francis Guilmartin: Galleons and Galleys: Gunpowder and the Changing Face of Warfare at Sea, 1300–1650, pp. 313–316.
[30] أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 5/82.
[31] عزيز سامح التر: الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية، ص257.
[32] ول ديورانت: قصة الحضارة، 29/110.
التعليقات
إرسال تعليقك