الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
للجامع الأموي في التاريخ مواقف كثيرة، وأياد بيضاء على العلم والعبادة، بل له العديد من مظاهر الإسهامات الحضارية.
مدينة دمشق هي إحدى أقدم مدن العالم مع تاريخ غير منقطع منذ 11 ألف عام تقريبًا، بل وأقدم عاصمة في العالم هناك عدة نظريات في شرح معنى اسمها، أوفرها انتشارًا كونها كلمة سامية بمعنى الأرض المسقيَّة. وتُعرف أيضًا بأسماء عديدة منها الشام ومدينة الياسمين. فتحها المسلمون عام 14هـ= 635م، وأصبحت حاضرة الخلافة الإسلامية وعاصمة الأمويين في العام 41هـ= 661 م، واستمرت مكانتها الجليلة السياسية والعلمية والثقافية عبر تاريخ كل الدول الإسلامية وإلى وقتنا هذا. ومن أشهر أعلامها: أبو زرعة الدمشقي المحدث، وابن الجزري شيخ قراء دمشق، وابن عساكر، وابن كثير، وابن الشاطر عالم الفلك والرياضيات.
أما من أشهر معالم مدينة دمشق الجامع الأموي الذي كان في العهد القديم سوقًا، ثُمَّ تحوَّل إلى معبد ثُمَّ كنيسة، ويعود تاريخه إلى 1200 سنة ق.م (العصر الحديدي) وبعد فتح دمشق صار نصفه مسجد ونصفه كنيسة، ثُمَّ أعاد الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ بناءه من جديد كمسجد كله بعد أن أرضى النصارى، وكساه بالفسيفساء، واستغرق بنائه حوالي 10 أعوام.
وللجامع الأموي في التاريخ مواقف كثيرة، وأياد بيضاء على العلم والعبادة، وسوف نتحدَّث في هذا المقال عن مظهر واحد من مظاهر إسهامات المسجد الحضارية، وهو كتاتيب المسجد.
يُعَدُّ الكُتَّاب من أقدم المراكز التعليمية عند المسلمين، وهو بمثابة المدرسة الابتدائية الآن؛ وكانت له مكانة كبيرة في القرون الهجرية الأولى، وهدفه الرئيس تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم.
ظهرت الكتاتيب في الشام بعد الفتح مباشرة، وتعلم فيها أبناء الفاتحين، يقول أدهم بن محرز الباهلي الحمصي[1]: «أنا أول مولود ولد بحمص -يعني من المسلمين- وأول مولود رُئِي في كتف -يعني يحمل كتفًا مكتوبًا فيه القرآن- وأنا أختلف إلى الكُتَّاب أتعلم الكتاب -يعني القرآن-»[2].
كتاتيب المسجد الأموي تحديدًا تميَّزت بأمور مهمة:
وصف ابن جبير[3]: في رحلته بعض مظاهر حضارة المسلمين، وقد فصَّل في شرح المسجد الأموي وعجائبه المعمارية والفنية والعلمية والاجتماعية، ومنها ما جاء بخصوص الكتاتيب، فذكر صفاتها، وقد لفت نظري فيها خمسة أمور:
1- إعطاء الأطفال المتعلمين عطاءً على حسن قراءتهم للقرآن: يعلِّم الملقِّن عددًا من الصبيان القرآن، وللأطفال على قراءتهم جراية معلومة.
2- أهل الجدة (الثراء) من آباء الأطفال ينزهون أبناءهم عن أخذ العطاء، وسائرهم يأخذه، وهذا من المفاخر الاسلامية.
3- للأيتام من الصبيان محضرة كبيرة لها وقف كبير، يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم؛ وهذا أيضا من أغرب ما يحدّث به من مفاخر هذه البلاد.
4- احترام القرآن الكريم، وتنزيهه عن المحو: وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين، ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها، تنزيهًا لكتاب الله عز وجل عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو.
5- الفصل في المواد: وقد يكون في أكثر البلاد المـُلقِّن على حدة والمـُكتِّب على حدة، فينفصل من التلقين الى التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة. ولذلك يتأتى لهم حسن الخط، لأن المعلم له لا يشتغل بغيره، فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك.
من الرائع أن ندرك أن هذا كان أمرًا مطَّردًا ثابتًا غير مرتبط بفترة مجد معينة عاصرها ابن جبير، وقد عرفنا ذلك من وصف ابن بطوطة [4]في رحلته الشهيرة، يُخبر عما أخبر به ابن جبير من قبله بما يزيد على مائة وخمسين عامًا.
قال ابن بطوطة عن معلمي المسجد الأموي في دمشق: «وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله، يستندُ كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يُلقِّن الصبيان ويُقرِئُهُم، وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيهًا لكتاب الله تعالى، وإنما يقرءون القرآن تلقينًا، ومُعلم الخط غير معلم القرآن، يعلمهم بكتب الأشعار وسواها، فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب، وبذلك جادَ خطُّه؛ لأن المعلِّم للخط لا يُعلِّم غيره»[5].[6].
[1] أدهم بن محرز: هو أدهم بن محرز بن أسيد الباهلي (نحو 100هـ/ 718م) تابعي فارس، وقائد عسكري كبير، وشاعر من أهل حمص. كان فارس أهل الشام ورجلهم في أيامه. انظر: الزركلي: الأعلام 1/282.
[2] ابن بدران: تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر 2/ 367.
[3] ابن جبير: (540-614هـ= 1145-1217م) هو محمد بن أحمد بن جبير الكناني البلنسي، ولد في بلنسية (فالنسيا Valence)، وينحدر من أسرة عربية عريقة. برع في الأدب، ونظم الشعر الرقيق، وأولع بالترحل والتنقل، فزار المشرق ثلاث مرات إحداها سنة 578 - 581 هـ وهي التي ألف فيها كتابه "رحلة ابن جبير"، ومات بالإسكندرية في رحلته الثالثة.
[4] ابن بطوطة: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، وُلد في طنجة (703ه). من أعظم الرحَّالة وأوسعهم شهرة؛ أمضى 28 عامًا من حياته في أسفارٍ ورحلات متعاقبة أملاها في كتابه «تحفة النُّظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وتولَّى منصب القضاء إلى أنْ تُوفِّي في مراكش سنة (770هـ)، أو بعدها
[5] ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة ص87.
[6] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك